التقديم والتأخير بين سيبويه و عبدالقاهر دراسة بلاغية تحليلية وموازنة

نوع المستند : المقالة الأصلية

المؤلف

المدرس بقسم البلاغة والنقد فى کلية اللغة العربية بجرجا ـ جامعة الازهر

المستخلص

أحمدُک اللهم حمداً يليق بجلالک ، وأُصلِّى وأسُـلِّم على أفضل خلقک (محمد) e .                ( وبعد )
فَمِمَّا لاشک فيه أنَّ أسلوب (التقديم والتأخير) من الأساليب التى ورد ذکرها بکثرة کاثرة فى کتاب الله U وفى ديوان العرب شعراً ونثراً، وکان هذا الأسلوب مناط إعجاب – وما يزال – لدى البلاغيين، والنحاة واللغويين، وکذلک النُّقَّاد، ولذلک أوْلى هؤلاء – وفى المقدِّمة منهم أئمَّتهم – الأسلوب المذکور، عنايةً فائقةً؛ لأهمِّيَّته فى الکلام، ولِدقَّته، ولغموضه، ولأنَّ التَّعمُّق فيه، والوصول إلى أسراره، ولطائفه التى ينطوى عليها يعنى الوقوف على وادٍ من أودية البلاغة ، وکنز من کنوز البيان .
ومن ثَمَّ فقد عدَّ الإمام (عبدالقاهر الجرجانى) هذا الأسلوب دقيقة من دقائق النظم ، ومفردة من مفرداته، وعقد له فصلاً خاصَّـاً فى دلائله، ونوَّه بشأنه، ونعته بأنه: “ بابُ کثيرُ الفوائد، جَمُّ المحاسن، واسع التَّصَرُّف، بعيد الغاية، لا يزال يفترُّ لک عن بديعه ، ويُفضى بک إلى لطيفه ، ولا تزال ترى شعراً يروقُک مسمعُهُ ، ويلطف لديک موقعه ، ثم تنظر فتجد سبب أن راقک ولطُف عندک، أنْ  قـُدِّم فيه شىءٌ ، وحُوِّل اللفظ عن مکان إلى مکان “ ([1]) .
على أنَّ الإمام بوصفه هذا للأسلوب المذکور لم يبدأ من فراغ ، وإنَّما کان قد أفاد من جهود سابقيه من أئمة النحو ، واللغة ، والأدب ، والنَّقد ، والبلاغة والإعجاز([2])، وفى طليعة هؤلاء ( سيبويه ) ( ت 180 هـ ) الذى أشار إليه الإمام فى ( دلائل الإعجاز ) مرَّات بقوله (صاحب الکتاب) ذلک فى باب ( التقديم ) وغيره، على نحو ما سنرى – إن شاء الله – فى هذا البحث .
فـ(سيبويه) هو أوَّل من أشار إلى القضية المذکورة وطرق بابها فى (الکتاب) الذى حوى کثيراً من المسائل البلاغية ، وکان من الرُّوَّاد الذين أسهموا بنصيب وافر فى تأسيس علم البلاغة ، ومن الأئمَّة العظام الذين کان تأثيرهم ضارباً بجذوره فى عقل الإمام ، حيث إنَّ مؤلَّفه کان أوَّل أثر نحوى يُعنى بالتنبيه “ على مقاصد العرب ، وأنحاء تصرُّفاتها فى ألفاظها ومعانيها ، ولم يُقتصر فيه على بيان أنَّ الفاعل مرفوع ، والمفعول منصوب ، ونحو ذلک ، بل هو يبيِّن فى کُلِّ باب ما يليق به ، حتى إنَّه احتوى على علم المعانى والبيان ، ووجوه تصرُّفات الألفاظ والمعانى “ ([3]) .
وبالتأمُّل الدقيق فيما ورد على لسان ( الإمام عبد القاهر ) فى صدر حديثه عن ( التقديم والتأخير ) ندرک تمام الإدراک أنَّ فکرة تسطيره للفصل الخاص بالأسلوب المذکور إنَّما کانت فى الأساس قائمة على کونها ردَّ فِعْل لفکرة طرحها (سيبويه) فى کتابه ، والتى ذهب فيها إلى " أنَّهم إنما يُقدِّمون الذى بيانُه أهمُّ لهم، وهم ببيانه أعنى، وإن کانا جميعاً يُهِمَّانِهم ويعنيانهم " ([4]) ، وذلک من غير أن يُبيِّن سِرَّ العناية بهذا دون ذاک ، أو يکشف لنا عن الوجه الذى کان من أجله أحدُهما أهمَّ من الآخر .
حيث إنَّه لمَّا جاء ( الإمام عبد القاهر ) ، وقد قرأ ما قرأ فى الکتاب لـ(سيبويه) ، ووقعت عيناه على الفکرة المذکورة کان هذا الوقوع بمثابة ضوء رقيق جداً لفت نظر الإمام ، فأراد أن يرُدَّ على تلک الفِکرة ، وعلى غيرها من الرُّؤى والأفکار التى صدَرت من ( سيبويه ) وأمثاله ممن لم يف مسائل التُّراث البلاغى حقَّها ، وعقد الإمام العزم على أن يُعير بلاغة ( التقديم والتأخير ) – وبالطبع غيره من المسائل البلاغية الأخرى – کبير اهتمام معتمداً على مجموعة من الأسس العلمية التى وضعها لنفسه ، وأن يذکر کُلَّ ما يجول بخاطره ، وما يعنُّ له من أمور تتعلق بالأسلوب المذکور وغيره .
ومِمَّا يدُلُّ على ما قُلْتُ من أنَّ صنيع الإمام هذا إنما کان ردَّ فعل لمقولة (سيبويه ) السابقة التى تختصر دلالة التقديم فى أنَّه يُقال فى کُلِّ شىءٍ قـُـدِّم: أنه قـُـدِّم للعناية والاهتمام – أقول : مما يدُلُّ على ذلک – قول الإمام: “ واعلم أنَّا لم نجدهم اعتمدوا فيه ([5]) شيئاً يجرى مجرى الأصل غير العناية والاهتمام ، قال صاحب الکتاب وهو يذکر الفاعل والمفعول : ( کأنَّهم يُقدِّمون الذى بيانه أهمُّ لهم، وببيانه أعنى، وإنْ کانا جميعاً يُهمَّانِهم، ويعنيانهم)، ولم يذکر مثالاً لذلک“([6]).
وواضح من کلام الإمام هذا : أنَّه يشى بأنَّ الصَّواب قَدْ نَدَّ عن ( سيبويه ) حينما ذهب إلى أنَّ التقديم مقصور على العناية والاهتمام بشأن المُقدَّم ، مِمَّا حدا بالإمام أن يقوم بتسطير بحثه عن الأسلوب المذکور .
ذلک فضلاً عن أنَّ هُناک مواقف أخرى لـ ( سيبويه ) ، ولغيره ، منها ما قَبِلَهُ الإمام وأفاد منه أيَّما إفادة ، وزاده شرحاً وتعليقاً وتذييلاً ، ومنها ما رفضه الإمام وردَّه ذاکراً حُجَجه وبراهينه على نحو ما سيتضح لنا فى هذا البحث ، مِما يدُلُّ على أنَّ الإمام وقف على کتاب ( سيبويه ) وأفاد من دراساته .
أضف إلى ذلک أنَّ بعض البلاغيين المتأخِّرين مِمَّن کان لهم جهد بارز فى التنقيب عن معلوماتهم من ( الکتاب ) لـ ( سيبويه ) کانوا فى بحثهم ، ولاسيَّما عن ( التقديم والتأخير ) يستقون معلوماتهم من الکتاب المذکور .
وهذا يعنى أن ( الکتاب ) لـ ( سيبويه ) أصلٌ من أهم الأصول التى استفاد منها البلاغيون ، وعلى رأسهم إمامهم عبدُ القاهر الجرجانى .
لهذا کُلِّه ، وانطلاقاً من أعمال العالميْن الجليلين (سيبويه)، و(عبدالقاهر) فيما ذکراه عن ( التقديم والتأخير ) رغَّبَتْ إلىَّ نفسى فى الميل إلى التُّراث أمتح من معينه ، وأستقى من نبعه ، وفى أن يمتشق قلمى فيما تناوله العالمان العظيمان من قضايا تتعلَّق بالأسلوب المذکور ؛ لإماطة اللثام عن جهودهما فى تلک القضايا ؛ تطلُّعاً إلى الوقوف على وجهة نظر کُلٍّ ، من خلال قدح زند الفکر فيما سطَّراه ، مُنصِّباً نفسى للحکم بالفصل والموازنة بينهما ، واضعاً الأمور فى نصابها ، ذلک بعد کشف النِّقاب عن بعض اللطائف والأسرار التى ينطوى عليها التقديم والتأخير عندهما ، ومنه إلى وضع اليد على مدى صِحَّة وعى الإمام وتدقيقه فيما ذهب إليه ( سيبويه ) من عرض لقضايا تتعلَّق بالتقديم والتأخير.
فکانت تلک الدراسة محاولة  للکشف عن جزء يسير من قيمة تراثنا الخالد فى مصدريْن من مصادره الأساسية ، التى کان لها أکبر الأثر على التأليف البلاغى، وإبراز استمراريَّته ، وإيماناً مِنِّى بأنَّ العودة إلى التراث والنَّظر فيه بصبر وإخلاص جزء من تنمية أذواقنا ، ومنه إلى فهم النصوص وتذوُّقِها ، ذلک فضلاً عن أنَّ الدراسة المذکورة لها دوْرٌ فعَّال فى استبطان بعض المعانى التى هى محلُّ أخذٍ وردٍّ .
کان ذلک بعض ما حفزنى إلى دراسة ( التقديم والتأخير ) عند الرَّجليْن ، ولکى أَصِلَ إلى مبُتغاى فيما ذکرتُ آثرت أن تکون تلک الدِّراسة بعنوان :
( التقديم والتأخير بين " سيبويه " و " عبد القاهر " )
" دراسة بلاغية تحليلية وموازنة "
مع ملاحظة أنَّه مما يزيد من قيمة هذا الموضوع هو : خـُـلـُـوُّ مکتبة الدراسات البلاغية من مثل هذه الدراسة – على حسب علمى – حيث إننى لم أعرف أحداً سبقنى إلى هذا البحث بدراسة مستقلَّة ، وإن کانت هُناک بعض الرَّشفات المتعلِّقة به والمتناثرة هُنا وهُناک .
هذا ، ولمَّا کانت تلک الدِّراسة تعتمد أساساً على الموازنة بين فکريْن ، تمييزاً بيْن سماتهما بعد درس وتمحيص لآثار کُلٍّ من السابق واللاحق ، وتجليتها، فقد اقتضانى هذا أن أنظم البحث فى ثلاثة مباحث تسبقها مُقدّمة ، وتتبعها خاتمة ، وفهارس للمصادر والمراجع ، وأخرى للموضوعات المتعلِّقة بالبحث .
أمَّا المُقدِّمة : فتناولت فيها أهمية الموضوع وأسباب اختيارى له .
وأمَّا المبحث الأول : فعنوانه : ( التقديم والتأخير فى تراث " سيبويه " عرض وتحليل ) .
وقد عرضت فى هذا المبحث لأغراض التقديم وصوره عند " سيبويه " وقُمت بدراستها عارضاً لها ومُحلِّلاً ، مُجلِّياً مدى انتفاع البلاغيين بالآثار التى خلَّفها " سيبويه " عن الأسلوب المذکور ، مُمهِّداً لِما عرضتُ بتوطئةٍ ألقيت فيها الضوء على أهمِّية (الکتاب)، باعتباره مصدراً هامّاً من مصادر البحث البلاغى ، موضِّحاً ذلک بالدليل والبرهان .
أمَّا المبحث الثانى : فهو بعنوان : ( التقديم والتأخير عند " الإمام عبد القاهر الجرجانى " عرض وتحليل ) .
وفى هذا المبحث أبنت عمَّا عَرَضَ له الإمام من قضايا تتعلَّق بالتقديم والتأخير کاشفاً عن جوانبها کما تصوَّرها الإمام نفسه ، دارساً لتلک القضايا دراسة فنِّية تحليلية ، مشيراً إلى أنَّ الإمام قام بمعالجتها معالجة تنم عن سعة معرفته ورهافة حِسِّه ، وذوقه ، وبراعة حذقه لفنون التعبير
العربى ، وأنَّه طوَّف حول الأسلوب المذکور بآفاق کثيرة لم يهتد إليها من قَبْله ، واضعاً خصائص ومميِّزات للتقديم لم نعهدها عند سابقيه ، ومن ثم کان الإمام أمثل منهم فى طريقة عرضه للتقديم والتأخير ، وتناوله له .
والمبحث الثالث : کان بعنوان : ( موازنة بيْن العالميْن الجليلين ) .
وقد جاء هذا المبحث مُتمِّماً لصورة البحث ، حيث قام هذا المبحث بالکشف عن جهود کُلٍّ من الرَّجلين بالمقارنة بينهما ، مُجلـٍّـياً أنَّ هُناک تفاوتاً وتبايناً بين نظرة کُلٍّ إلى (التقديم والتأخير)، من حيث الغرض من هذا الأسلوب، ومنهج کُلٍّ من العالميْن ، وطريقته فى التناول ، والشَّرح والمُعالجة ، ومشيراً کذلک إلى بعض أوجه التشابه فيما بينهما ، وذلک فى ضوء ما ذُکِر فى المبحثين السابقين .
وختمت هذا البحث بخاتمة سَجَّلت فيها خُلاصة البحث وأهم نتائجه .
وبالطبع تأتى بعد ذلک الفهارس الفنِّية الخاصة بمصادر البحث ومراجعة متبوعة بفهرس للموضوعات .
ومن الجدير بالتسجيل فى هذا المقام هو : أننى حينما بدأت العمل فى هذا البحث لم أکن أتوقَّع أنه سيتسع علىَّ بهذه الصورة التى جاء عليها ، ولکن ظروف البحث وطبيعته اقتضت أن يأتى فى حلقات متَّصلة اتصالاً يُسلِّمُ کُلَّ حلقة منها إلى التى تليها مما تطلَّب أن تحثُ فى تلک الحلقات الخُطى ، وتغزُ السيْرُ ، إذ إنَّ کُلَّ حلقة تستلزم التى بعدها ، واللاحقة تتوقف على السابقة ، وهکذا ، ولذلک اتسعت دائرة البحث ، مما دفعنى إلى مزيد من العمل والجدِّية فى هذا البحث ، حتى خرج بهذه الصَّورة التى أرجو أن لا أکون قد أسهبتُ فيها بما يُمِلُّ ، أو لا أکون قد قصَّرْتُ وأوجزْت بما يُخِلُّ .
وبعد
فإنى أحمدُ الله U على ما وفَّق وأعان ، فهو وحده يشهد أننى لم آل جهداً، ولم أدَّخر وسعاً فى إخراج هذا العمل المتواضع على هذا النحو الذى جاء عليه فى صورته هذه ، کما أننى لا أستطيع الادٍّعاء بأنَّ الموضوع قد استوعب کُلَّ عناصره ، واستوفى کُلَّ شىءٍ يخصُّه ، فهذا ادٍّعاء لا يتـَّـفق مع الرُّوح العلمية ، إذ إنَّ الکمال لله U وحده ، وإنما أستطيع أنْ أقول : إننى بذلت جهداً مُخلصاً ، فإنْ کان التوفيق قد حالفنى فذلک فضل من الله ومِنَّة ، ، وإنْ کانت الأخرى فمن نفسى ، وحسبى أننى أخلصت النِّيَّة ، وبذلْت قُصارى جهدى . والله أسأل أن يجعلَ عملى هذا خالصاً لوجهه الکريم .
کما أسأله – سبحانه – أن يوفِّقنا دائماً لخدمة لغة القرآن الکريم ، وأن يهدينا سواء السبيل ، وأن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الکريم ، إنه نعم المولى ونعم النصير .
( ربَّنا عليک توکّلْنا وإليک أنبنا وإليک المصير )
دکتور / إسماعيل محمد الأنور محمد إسماعيل
المدرس بقسم البلاغة والنقد فى کلية اللغة العربية بجرجا
 

الكلمات الرئيسية