تعريف موجز : شَرَحَ أبوالفتحِ؛ عثمانُ بنُ جني ديوانَ أبي الطيب المتنبي في ثلاث مجلداتٍ ضخمة، وسمَّى شرحَه ذلک (الفَسْرَ)، ثمَّ کان الدکتور صفاء خلوصي – رحمه الله – أوَّلَ مَن عمِلَ على تحقيقه وإخراجه، فحقَّقَ معظمَ الجزء الأوَّل في السنوات 1968-1978م. ، ولم يُکتَب له التوفيقُ المأمولُ في إخراجِ هذا السِّفرِ النَّفيسِ ، فکثرَ ناقدوه، ثمَّ توفِّي ولم ينجز ما بدأ به، ثمَّ تولَّى الدکتور رضا رجب – رحمه الله – إخراجَ الکتابِ کاملًا في سنة 2004م ، وقد نظرتُ في الکتابِ وفي منهجِ تحقيقه نظراتٍ متأنيَّةٍ، وقرأتُه قراءةَ العارفِ بأسرارهِ ، الخبيرِ بشؤونِه ؛ وما ذاک إلا لطول صحبتي له ؛ فقد کنت – وما زلت – مشغولا مسکونًا بهذا الکتاب وصاحبيه منذ ما يزيدُ عن ثلاثين سنة. ولقد خرجتُ مِن هذه القراءةِ بنتيجةٍ مفادُها : أنَّ هذا الکتابَ النَّفيسَ قد أُسِيءَ إليه وإلى صاحبيهِ ، وأنَّهما زالَ بحاجةٍ إلى تحقيقٍ وإخراجٍ يحفظُ له مکانتَه ، وينفي عنه ما علِقَ به من خَبَثِ التَّصحيفِ والتَّحريفِ والتَّعليقِ والتَّحقيقِ. أهمية الموضوع وأسباب اختياره : هذَا شرحُ ديوانِ شاعِرِ العربيَّةِ ، مالئِ الدُّنيَا وشاغِلِ النَّاسِ ، سَطَّرَتْهُ يَدُ شيخِ العربيَّةِ وإمَامُها ، وعبقرِيُّ لُغتِهَا ونحوِها وتَصْريفِها. شرحٌ التَقَتْ فيهِ قَريحَةُ الشَّاعرِ المبْدِعِ بعَقْلِ العالمِ المفکِّرِ اللَّوذَعيِّ. أبو الفتحِ عُثمانُ بنُ جِنِّي الْمَوْصِلِيُّ (321-392هـ) ، شيخُ العربيَّةِ في عصرِهِ، وصاحبُ نظريةِ الاشتقاقِ الأکبرِ في العربية، يشرحَ ديوانَ شاعرِ العربيَّةِ، وعبقريِّ الکلمةِ ، أبي الطيِّبِ أحمدَ بنِ الحسين المتنبي ( 303-354هـ ) . وکانَ أبو الفتحِ الأجدَرَ بشرحِ هذا الديوانِ؛ لصُحبَتِهِ لأبي الطيبِ ، وقراءتِهِ ديوانَه عليه ، ومناقشتِهِ إيَّاهُ بعضَ عويصِ معانيه ، هذا معَ ما اشتُهِرَ عن أبي الفتحِ من دقَّةٍ في الفهمِ ، وقدرةٍ فائقةٍ في التحليلِ ، وعلوِّ کعبٍ في الدراساتِ الصرفيَّةِ واللِّسانية. وقد احتَفَى النُّقادُ - قديمًا وحديثًا– بالکتاب؛ لأنَّهُ ثمرةُ الْتِقاءِ شيخِ العربيةِ المبدِعِ بشاعِرِها العظيمِ، وأنَّهُ أوَّلُ شرحٍ موَثَّقٍ لشعرِ المتنبي، فإليهِ (( يعودُ الفضلُ الأمثلُ في کونِهِ أساسًا للدِّراسَاتِ المتنبِّئيَّةِ في الشرْق))([1]). وهوَ معَ کتاب أبي الفتحِ ( الفتحِ الوهبي ) المسمَّى الفسرُ الصَّغيرُ(( أقدمُ شروحِ الديوانِ وأوثَقُها ، وکلُّ من شرحَ شعرِ أبي الطيِّبِ بعدهما فإنَّما هوَ عيالٌ عليهما ، ولم نجد شرحًا لشعرِ أبي الطَّيبِ لا ينقلُ عن أبي الفتحِ ، ولا يُکثِرُ من ذکرِ تفسيراتِهِ مؤيِّدًا أو مُعارِضًا)) ([2]). قالَ البَاخَرزيُّ (- 467هـ ):(( ليسَ لأحدٍ من أئمَّةِ الأدبِ في فتحِ المقفَلاتِ ، وشرحِ المشکِلاتِ ما لَهُ ... فوربِّي إنَّهُ کشفَ الغِطَاءَ عن شعرِ المتنبي )) ([3]). ويکفي الفسرَ شرفًا أنَّهُ رائدُ شروحِ ديوانِ المتنبي ، وأوثقُ ناقلٍ لأفکارِ المتنبي ، ومعانيه الخفيَّة ، وهو - أيضًا - الباعثُ الفاعلُ ، والمحورُ الرَّئيس في الحرکةِ النَّقديةِ حولَ المتنبي وشعرِهِ. مشکلة البحث وتساؤلاته وأهدافه : لقَدْ تَمَلَّکني العَجَبُ - کما تَمَلَّکَ کثيرًا مِنْ أساتِذَتي - إذْ کيفَ يظَلُّ هذا السفْرُ النَّفيسُ رهينَ المحبِسَينِ ؛ حبْسِ بقَاءِ معظمِهِ لَمَّا يُحَقَّق بَعْدُ ، وحبْسِ مَا اعْتَوَرَ بعضَهُ المحقَّقَ من جَورٍ وإجْحَافٍ. ثمَّ إنَّهُ ليزدَادُ عَجبِي عنْدَما أرى مُعظمَ شُرُوحِ ديوانِ أبي الطَّيِّبِ قدْ حُقِّقَتْ ونالَتْ مِنَ العِنَايَةِ مَا تَسْتَحِقُّ ، ثُمَّ أجِدُ هذا الشَّرحَ لَمَّا ينَلْ بَعْدُ العنايةَ التي تجْلُو عنْهُ صَدَأَ الغُربَةِ ، وقَيْدَ الأيامِ ، وکانَ الأجدَرُ بهِ أنْ يکونَ أوَّلَ الشُّروحِ ، وأَوْلاَهَا بالعنايةِ والرَّعايَةِ ؛ لأنَّ جميعَ الشُّرُوحِ بعَدَهُ عيالٌ عليهِ ، متأثرةٌ به ، آخذةٌ منه.