الفاصلة والسجع دراسة بلاغية في سورة مريم قصتا زکريا ومريم نموذجًا

نوع المستند : المقالة الأصلية

المؤلف

جامعة الأزهر

المستخلص

الحمد لله رب العالمين، نحمدُه حمدًا يکافئُ نِعمَه، أرسل إلينا خاتم رسله (r)؛ ليکون للناس کافّةً بشيرًا ونذيرًا، قال في محکم التنزيل:﴿قَدْ جَاءَکُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَکِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)[سورة المائدة]، وجعل آيتَه الدالّةَ على صدقه، وشرعَهُ الذي يعبدونه عليه: بلسانٍ عربيٍّ مبين، ﴿وَکَذَلِکَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِکْرًا﴾ [سورة طه الآية 113]، والصلاةُ والسلامُ على أفصح العرب أجمعين سيدنا محمد، نَهَى عن سجعِ الکُهَّان وغيرهم من المتکلِّفين، وعلى آله وصحبه ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
اللّهم اجعلْنا ممّن هدَيْتَهُم إلى مُرَادِک من التنزيل، وکانوا بما فيه من العاملين المخلِصين، ففازوا برضوانک في جَنَّاتِک جناتِ النّعيم.
أما بعد :
فهذا البحثُ بعنوان: (الفاصلة والسجع دراسة بلاغية في سورة مريم قصتا زکريَّا ومريم نموذجًا)، قصدتُ من ورائه:
التفريقَ بين مصطلحَيْ (السجع) و(الفاصلة) عند البلاغيين.
وبيانَ المانعِ عند بعضهم من استعمال مصطلح (السجع) فيما جاء على أسلوبه مِن الذکرِ الحکيمِ.
والوصولَ إلى رأيٍ في ذلک يُقنع العقل ويوافق الشرعَ الحکيمَ.
ثمّ الاعتقادَ الجازمَ بأنّ السجعَ وغيرَه – ممَّا دُوِّن عند المتأخرين في (علم البديع)، ممَّا جعله بعضُهم حِلْيةً وزينةً شکليةً، هي مِن وجوهِ التعبير، کالذِّکْرِ والحذْفِ، والمجازِ والتشبيهِ، والقصرِ والتذييلِ، بل ومن وجوه الإعجاز فيه، وهي وُجوهٌ کثيرةٌ لا تُحصَرُ ولا تُستَقْصَى، وهي التي عناها الإمام عبد القاهر بقوله: "وذلک أنّا لا نعلمُ شيئًا يبتغيه الناظمُ بنظمه غيرَ أنْ ينظرَ في وجوهِ کلِّ بابٍ وفروقِهِ.."

وفي النهايةِ عِلْمَ اليقين بأنّ ما جاء منه في القرآن الکريمِ کان المعنى هو الذي استدعاهُ وأوجبه، فلا تکلُّفَ فيه ولا صنعةَ، وأنه مِن مظاهر تفرُّدِه وإعجازه.
وسببُ اختياري هذا الموضوع أنني وجدتُ الجمهورَ من البلاغيين قديمًا وحديثًا، قد امتنع عن استعمال مصطلح (السجع) على ما في القرآن الکريم مِن جنسه، بل ودعا إلى ذلک، متعلِّلًا بکلٍّ مِن النَّهْي النبويّ والوضع اللُّغويّ لِمادته، کما أنِّي وجدتُ أنّ مشاهدَ قصتَيْ (زکريَّا) و(مريم) بينهما کثيرٌ من أَوْجُهِ الشَّبَهِ والاتِّفاق، وأنّهما جاءتا متجاورتين في أکثر من موضعٍ في الذِّکْرِ الحکيم، وأنهما في سورة (مريم) قد استغرقتا مِن الآيات ما يزيد على الثلاثين، وکلُّها قد اتفق في نوعِ حرفِ الرويِّ، وفي الوزنِ في أواخر آيِهَا، فقد اتفقت فواصلُ القصتين جميعًا في سکون الرويّ مسبوقًا بمتحرِّکٍ، قبلهما ساکنٌ مسبوقٌ بمتحرِّکٍ، وهذا العددُ سيکونُ خيرَ دليلٍ على إظهار إعجاز القرآنِ الکريم، وأنّ السجع وإن کَثُرَ في الکلام البليغ فالمعنى هو الذي يطلبه ويستدعيه، دون أدنى تکلُّفٍ أو استکراه، وأنه - وإن تحقَّق به التنغيمُ - لم يکن الغايةَ من استعماله، ولا سببًا في وجوبِ استمرارِه، حتى استغرقَ أسلوبُه جميعَ الآيات التي سَرَدَتْ أحداثَ القصتين على اختلاف الصور والأحوال والمشاهد والأحداث.
وترجع أهميةُ هذا البحث إلى الوقوف على الرأي الذي تطمئن إليه النفس في جواز إطلاق مصطلح (السجع) على ما في القرآن الکريم من صُوَرِه أو عدم جواز ذلک، وعدمِ التقديس لِکلِّ ما وصل إلينا من سلفنا (رضي الله عنهم) من قوانين وقواعد، کما ترجع أهميتُه إلى تأکيد أنْ ليس السجعُ في الکلام البليغِ محصورًا في الجَرْسِ والتنغيم فحسب، ولکنه لا يُستَعمَل عند البُلَغاءِ إلا تلبيةً لمُقتَضَيات النَّظْمِ کغيره من أدوات التعبير، وأنه في القرآن الکريم مهما کَثُرَ وتتابَعَ هو في الذِّرْوَةِ من الدّقة والإصابة، إلى حدٍّ أعجز المعاندين عن معارضته، وفي ذلک – بالتَّبَع – ردٌّ لِمِثلِ ما صدر عن بعضهم مِن أنّ الفاصلةَ قيمةٌ صوتيةٌ ذاتُ وظيفةٍ مُهِمّةٍ تُرَاعَى في کثيرٍ مِن آيات القرآن، وربما أدّتْ رِعايتُها إلى تقديم عنصرٍ أو تأخيره من عناصر الجملة"

واقتضى ذلک أنْ أُراجع ما جاء في مُعْجَمات اللُّغة، لأَخْرُجَ بنتيجةٍ مؤکَّدَةٍ وقولٍ فصلٍ، في حکم إطلاق اسم (السجع) على ما جاء منه في القرآن الکريم، کما اقتضى أنْ أقف مع کلِّ آيةٍ – موضوع الدراسة - بالتأمُّل والتدقيق، باحثًا في الأحوال والمقامات، وما تقتضيه من خصوصيّاتٍ واعتباراتٍ، وما جاء عليه النظمُ المُعجِزُ من ألفاظٍ وتراکيبَ، لِأتوصّل من خلال ذلک إلى بيان مطابقة هذا الکلام لِما اقتضاه السياقُ والمقامُ، مستعينًا في ذلک بکلام المفسرين والمُعْرِبِين وعلماء اللُّغة وأقوال العلماء القدماء والمعاصرين، سالکًا المنهجَ الوصفيَّ القائمَ على التحليل الموصِّل إلى نتائجَ مسلَّمة، تُقنِعُ العقلَ وتُمتِعُ القلب.
ومِن الدراسات التي سَبَقَت في هذا الإطار:
1 – کلماتُ القرآن تفسيرٌ وبيانٌ – لفضيلة الشيخ: حسنين محمد مخلوف – دار ابن حزم – بيروت – لبنان - 1418هـ 1997م.
2 - المستوى البلاغي في سورة مريم – للدکتور: فيصل حسين طحيمر غوادرة – جامعة القدس المفتوحة – کلية التربية – قسم اللغة العربية وآدابها.
3 – دراسة أسلوبية في سورة مريم – للباحث: معين رفيق أحمد صالح - أُطروحة ماجستير مقدَّمة إلى کلية الدراسات العليا – جامعة النجاح الوطنية – نابلس – فلسطين – 2003م.
4 – الفاصلة القرآنية في سورة النحل – للدکتورة: عزيزة عبد الفتاح الصيفي – جامعة الأزهر بالقاهرة – 1427هـ 2006م.
وقد اقتضت طبيعةُ هذا البحث أن يأتي – بعد هذه المقدمة – في مبحثينِ، قبلهما تمهيدٌ، وبعدهما خاتمة، وفي النهاية ثَبْتٌ بأهم المصادر والمراجع، يليه ثَبْتٌ آخرُ بمحتويات البحث وأماکن وجودها فيه.
أمّا التمهيد فبعنوان: الفاصلة والسجع.
والمبحث الأول: الفاصلة في قصة زکريّا (عليه السلام).
والمبحث الثاني: الفاصلة في قصة مريم (عليها السلام).
والخاتمة : فيها أهم النتائج التي توصّل إليها البحث.
 
 
 
 
 
 


الكلمات الرئيسية