فلسفة اللغة ونظرية التواصل

نوع المستند : المقالة الأصلية

المؤلف

أستاذ مشارک في الدراسات اللغوية قسم اللغة العربية – کلية العلوم والآداب جامعة نجران – المملکة العربيّة السعوديّة

المستخلص

دَرَج کثير من الباحثين على السير في خُطى من زعم أن اللسانيات في الغرب شرعت  في الاستقلال، علمًا دقيقًا، على يد (دي سوسير) مع بدايات القرن العشرين، وکان الحديث يتمحور حول مدى أثر عالِم الاجتماع الفرنسي (دورکايم) في صياغة نظرية دي سوسير وما انبثق عنها من ثنائيات شهيرة أخذت تطغى، ليس فقط على المدارس اللسانية اللاحقة، وإنما بدأ سحرها أيضًا ينتشر في معارف وعلوم مجاورة للسانيات تحت ما يُسمَى بـ(عصر البنيوية)، ولعل دي سوسير بخطواته المترددة والخجولة لم يکن يعلم أن (دروسه) سوف يکون لها هذا الأثر الکبير في عالم الفکر واللغة.
واللغةُ بوصفها مبحثًا للدرس والتأمُّل تنازعتْها معارفُ وفنون متعددة، کان من أشهرها الفلسفة، التي تُمثِّل تاريخ الفکر الغربي منذ بداياته الأولى في اليونان، تلک البدايات التي أخذت تسيطر على جميع عصور الفلسفات الکبرى في الغرب إلى يومنا هذان، حتى قيل بأن عالم الفکر ما يزال تحت قبضة کل من سقراط وأفلاطون وأرسطو، فکل فکر وعلم في الغرب اليوم فيه شيء من حکمة اليونان وفلسفتها، وهذا التوجيه الکبير الذي تمارسه الفلسفة کان مرتبطًا بالإيمان العميق بتأثير اللغة المستمر على مستعمليها، فقد تنبَّه اليونان لذلک ووجدوا في تأمل اللغة کلَّ حافز لإمکانية تأسيس تاريخ الفکر الإنساني.
تحت هذا الاستحواذ الفلسفي، هل يمکننا الزعم بأن اللسانيات قد افلتت من تلک القبضة المحکمة، واستقلت عن تلک الرعاية التي طال أمدها؟ هل حظيت اللغة أخيرًا بوصاية آبائها الشرعيين الذين يميطون عنها کل آثار الاستغلال والانحطاط الذي مورس عليها طيلة قرون مضت، فغدت أداة تُدرَس في ذاتها ولذاتها، وفقًا لعبارة (دروس) أستاذ جنيف الشهيرة؟ إن خيوط الفکرة التي ينسجها هذا البحث تنبني على القول بأن نظريات اللغة التي صيغت في حقل اللسانيات ما زالت تُسيطِر عليها مبادئُ الفلسفة الأولى، فمع بدايات القرن العشرين ظهر لدى الفلاسفة ما يُسمَّى بـ(المنعطف اللغوي) الذي أعطى طابعًا تحليليًا لهذا القرن، وليس غريبًا أن يکون الزمن الذي ظهر فيه هذا المنعطف هو الزمن نفسه الذي أعلن فيه استقلال اللسانيات، فهذا التقارب الزمني ذو مغزى إلى حدٍّ کبير.
فقد أدَّى تأمل اللغة والبحث فيها في القرن العشرين إلى اتجاهين رئيسين، أحدهما قاده أناس عرفوا في الدوائر العلمية بأنهم فلاسفة، مثل: (مور) و(رسل) و(فتغنشتاين) و(أوستين) و(سيرل)...إلخ، والاتجاه الآخر قاده أناس عرفوا في دوائر البحث العلمي بأنهم لسانيون، مثل: (دي سوسير) و(هيلمسليف) و(هاريس) و(تشومسکي)...إلخ. والمتتبع للأسس العلمية التي انطلق منها رائدا البحث اللساني، سوسير وتشومسکي، يجد أن ما طرحاه من تقسيمات ثنائية أخذت طابع الشهرة العالمية، ما هو في حقيقة الأمر سوى امتداد طبيعي لما قال به أفلاطون وأرسطو في العصور القديمة، وهذا ما ارتهنت الدراسة  لبيانه وتثبيت دعائمه؛ لتصل إلى نتيجة مفاده أن اللسانيات الحديثة ضمن إطارها النظري لم تستقل بعدُ عن الفلسفة، وإضفاء الطابع اللساني على رواد هذا العلم لا ينفي عنهم صفة الانغماس في الفکر الفلسفي، فالذي أخرجهم من دائرة الفلاسفة هو فقط النظام الأکاديمي للجامعات التي يعملون فيها، کما أن الذي حَرَمنا، في أقسام اللغات، من الاستفادة من الفکر اللغوي الذي أنتجه کبار الفلاسفة هو النظام نفسه، وکم کانت خسارتنا کبيرة في عدم الالتفات إلى حوارات الفلاسفة ومناقشاتهم حول اللغة التي نظروا إليها بوصفها أداة لحلول المشاکل، بل إن الفلسفة لديهم هي، في مجملها، فن مقاومة اللغة.
فقد رسم هؤلاء الفلاسفة الکبار من أمثال فتغنشتاين وهيدغر وغادامير وبول ريکور...إلخ وجهًا جميلًا للغة قلَّ ما نجد له نظيرًا في دوائر البحث اللساني. والفرق بين عمل اللساني وعمل فيلسوف اللغة هو کما الفرقُ بين رجلين يقفان أمام جسم جميل، أحدهما يحمل في يده مبضعًا والآخر يحمل في يده ريشة، وکل واحد منهما يسعى بما يحمله للقيام بالمهمة التي نذر نفسه لها، ولا غرو أن نجد في عمل الرجل الأول (اللساني) ما يطلعنا على مواطن الانفصال، وأن نجد في عمل الرجل الثاني (فيلسوف اللغة) ما يطلعنا على ملامح الاتصال، فنظرة الأول نظرة عضوية تأتي مناطق کشفها من الداخل، ونظرة الثاني نظرة جمالية تأتي مناطق کشفها من الخارج، وإذا استعرنا من أفلاطون تشبيهه الخاص بـ(أهل الکهف)، فإن اللساني يقبع داخل الکهف لا يرى سوى الظلال والخيالات، بينما يجلس فيلسوف اللغة خارج هذا الکهف مستمتعًا بنور الشمس المنعکس على کل ما هو حقيقي.
ونظرة الفلاسفة الخارجية للغة جعلتهم يلتفتون إلى الجانب الاستعمالي منها، سواء تعلق الأمر باتصال الفيلسوف مع ذاته وأفکاره الخاصة موظِّفًا في ذلک کل طاقات اللغة التمثيلية، أو تعلق الأمر باتصال الفيلسوف أو محترف الفلسفة مع غيره من البشر موظِّفًا في ذلک کل طاقات اللغة التواصلية. فمع الجانب التمثيلي للغة ظهرت (نظرية المفاهيم) السقراطية و(نظرية المُثُل) الأفلاطونية، ومع الجانب التواصلي للغة ظهرت نظريات (الحجاج) و(الجدل) السوفسطائية، وقد کان لهذه النظريات القديمة أثرها الفاعل في توجيه دفة المعارف والفنون في وقتنا المعاصر بما أثارته من أجواء فکرية وفلسفية أطبقت على کل شيء يمکن أن تطاله، ولم تکن اللسانيات الحديثة بمنأى عن هذا التأثر والتأثير على نحو ما سيظهر وشيکًا في ثنايا البحث.
وقد ضاقت فئة من الباحثين بإطلاق لقب (فيلسوف) على أغلب العلماء الذين کان لهم دور بارز في کشف مناطق من العلم لم يُسبقوا إليها، فتراهم يجعلون من (فرويد) و(دي سوسير) و(آينشتاين) و(تشومسکي) ...إلخ فلاسفة، وهم من وجهة نظر هذه الفئة علماء وليسوا بفلاسفة. وما درى هؤلاء الممتعضون بأن معظم مبتکري المعارف الإنسانية في الغرب عندما وقفوا على أرض جديدة من العلم، کانت تُظلّهم سحابة تطل منها رؤوس فلاسفة اليونان بين الفينة والأخرى، ولهذا فإن الذي ينظر إلى أسفل يُصنِّفهم ضمن فئة العلماء، والذي ينظر إلى أعلى يجد أنهم ما يزالون أحفادًا وأتباعًا لأصحاب الرؤوس المُطِلة.
 

الكلمات الرئيسية