آليات التشکيل في الرسالة الأندلسية أنموذج من ثلاث

نوع المستند : المقالة الأصلية

المؤلف

جامعة الأمير سطام بن عبدالعزيز المدرس بقسم الدراسات الأدبية کلية دار العلوم - جامعة الفيوم بمصر

المستخلص

لعل فن الرسائل الأدبية من أقدم أجناس النثر العربي رسوخًا في التاريخ الأدبي. إن الرسالة ظلت مدًى بعيدًا من الزمن أداة للتواصل بکل أشکاله وصوره ، عبر البيئات المتباعدة والأقاليم المتعددة في الدولة الإسلامية الکبيرة . هذا الأمر قد يعود إلى مستوى الرقي البشري الراهن آنذاک . اعتمد الأفرادُ والدول اعتمادًا فنَّ الکتابة وسيلةً أساسًا في تسيير الأمور وإنجاز المهام في الشئون المختلفة . أصبح ديوان الرسائل ، ذات يوم طويل مديد عبر الزمن ، رکنًا رکينًا من مؤسسات الدولة . دَرَجُ الوصولِ إلى الوظائف العليا في الدولة هو النبوغ في هذا الفن خاصة ، وفي النثر عامة . هنا اشتعل التنافس اشتعالا ، فازدهرت تلک الفنون عبر تلک العصور ازدهارًا ! ... وأبعد من ذلک ، ظَلَّ النصُّ النثريُّ فعّالا في النفوس کالشعر. أخذ کاتبوه في تطويره عبر التنوع الذي شهده . في العصر الأندلسي ، حيث الزمانُ الرخيُّ والمکانُ البهيُّ في حِقَبٍ منه ، تلوَّنَ ذلک الفنُ بألوانه . احتدمت المراسلاتُ وسَلِمَ لنا النصّ . نتعاطاه متعةَ قراءةٍ ، ولذةً في التأمل والتأويلِ والتحليل .
في هذه الدراسة تخيرتُ مثالا رجوتُ أن يکون مثيلا . ثلاث رسائل من حقبة واحدة ، لکُتَّاب ثلاثة أيضا التقى اثنان منهما ، وکان الثالث من جيلهما . من منتصف القرن الخامس الهجري تقريبًا إلى منتصف السادس بالتقريب أيضا . عَرِيَتْ هذه الرسائلُ في مصدرها من العنوان ، وقد هيأتُ بعضَ العنواناتِ لها أستعين بذلک على الربط بين طروحات التحليل ومناسبة کلٍّ منها وهدفها . وقد ألحقتُ نصوصها في ذيل البحث . حرصت أن تمثلَ هذه الثلاثُ ألوانًا مختلفة من الأنواع المعروفة للرسائل . الأولى تمثل الرسائلَ الاجتماعية ، والثانية تمثل الرسائلَ الإخوانية ، والثالثة من الرسائل الديوانية . الرسالة الأولى لفقيه عاش في النصف الثاني من القرن الخامس وما بعده (کان حيًّا بعد سنة 499هـ) يدعى أبا محمد عبدالقوي الأندلسي([1]). أرسل رسالته إلى صديق له من الفقهاء أيضا ، يدعوه فيها إلى اجتماع اعتزم عقده لمناسبة تزويج ابنته . اختصرتُ موضوعَها في عنوان مقترح هو " دعوة إلى حفل زواج " . لقد کان الموضوع طريفًا ، فلم يکن الاجتماعُ حفلَ زواج بالمعنى المعهود للتعبير . کان حفلَ عرض الفقيهِ ابنتَهُ على صديقه يزوِّجُه إياها أو قل: يخطبها إليه ، صنيع الصحابة الأولين وبعض الأنبياء . أشار هو إلى ذلک في سياق رسالته. تخلل الرسالةَ من جهة الموضوع عدةُ أفکار، بدأت بتمهيد للغرض الأساس المذکور آنفًا. تحدثتْ عن حقيقة أن إنجاب البنات إنما هو ابتلاء من الله تعالى للعبد ، وذلک يستوجب الصبر المنجي من النار. تطرق بعد ذلک إلى حقوقهن علينا وجناية القدماء عليهن بالوأد في الجاهلية . وعرض شيئًا من خلائقهن متحاملا قليلا عليهن ، ثُمّتَ عادَ فأثنى وأحسن الذکر. وقرب الختام مهَّدَ لما اعتزم عليه بسلوک شعيب عليه السلام وعمر t في عرض کل منهما ابنتَهُ للزواج ممن يثق بأمانته ؛ ليرفع الکاتبُ الحرَجَ عن نفسه في ذلک . وختم رسالته بالثناء على الفقيه والسلام .
   والرسالة الثانية کتبها الأديب المشهور أبو محمد عبدالمجيد بن عبدون وزير بني الأفطس ، وصاحب القصيدة ذائعة الصيت في رثاء دولتهم . توجه برسالته إلى الکاتب الوزير أبي عبدالله محمد بن أبي الخصال يطلب إليه التراسل والتواصل . قال صاحب المعجب([2]) عن هذه الرسالة : " ومن رسائله -الإخوانيات- رسالةٌ کتب بها إلى أبي عبد الله محمد بن أبي الخصال يخطب مودّتَه، ويستدعي من إخائه جِدَّتَه ".  فجعلتُ عنوانها:(دعوة إلى تجديد الإخاء ) . بدأتْ بالثناء على الوزير المرسَل إليه وإکبار شأنه . وأخذ الکاتبُ في دفع ظنة المنافسة الأدبية - لابن أبي الخصال - عن نفسه ، وأکد التبعية له وأنه تالِيهِ في المرتبة  الفنية. وطالبَ المرسَلَ إليه بجوابٍ على رسالته هذه ، مُشِيدًا بأدبه الذي يرجو أن يحوز بعضَه في جوابه المأمول([3]) . وينخرط في شکاة انقطاع التواصل الأدبي بينهما . ويستصغر ابنُ عبدون قَدْرَ نفسِهِ في هذه الصناعة أمام بلاغة ابن أبي الخصال ونبوغه ، يمتدحه بذلک ، بصورة بليغة وزائدة عن حد الاعتدال . ويختتم بالسلام .
وقد کتب الرسالة الثالثة أبو مروان بن أبي الخصال ، على لسان الأمير عليِّ ابن يوسف بن تاشفين أمير المرابطين آنذاک([4]) ، يُقَرِّع فيها جنودَ الجيش الذين انهزموا أمام ابن رذمير(ألفونسوا المحارب) هزيمة بالغة ، حيث أعملَ فيهم القتلَ وشرَّدَ بهم . فأخذ أبو مروان يکيل لهم السخرية والتهکم والنکير واللوم والتهديد والسبَّ المقذعَ طوالَ الرسالة . ذکر المؤرخون أن ذلک شَقَّ على الأمير فحنق على الکاتب وأعفاه ، فقد فطن إلى أنه يکره المرابطين . تحدث الأميرُ بذلک لأخيه أبي عبدالله بن أبي الخصال ، وترکا الخدمة في بلاط الإمارة على أثر ذلک([5]).  توفي أبو مروان بمراکش في العام 539هـ([6]). تبعه أخوه شهيدًا في قرطبة بعد عام([7]) . هدمتْ هذه الرسالةُ علاقةَ کاتبها وأخيه بحاکم المرابطين . لکنها احتوتْ ضربًا من التفوق في تشکيلها الفني يستحق عناءَ الدرس والتحليل .
    لهذه الدراسة زاوية تتجه إليها الرؤية في التحليل والتناول : الکشف عن الوجه الأدبي للنص من خلال معالجة وسائل تنسيق صورته الفنية ، ونظمه ، وتکامله في تلک الصورة مع موضوعه . جوهر الإبداع منطَلَقًا ومجالًا. إدراک مقومات الجمال الفني ، والبحث عن مدى قوتها أو ضعفها ، مدى توفيقها في مواضعها ، ثمتَ جدواها وتأثيرها .
  وقد عولت الدراسة على مصدرين أساسين لهذه الرسائل المختارة، هما کتابا "رسائل ومقامات أندلسية" و"رسائل أندلسية"، وهاتان مجموعتان لم يُهتدَ إلى تحديد شخصية جامعِ کلٍ منهما([8]) .
 
 

 
 

الكلمات الرئيسية