النظرية السياقية للفظ والنظم، قراءة في التقسيمين الثنائي والثلاثي للکلام عند عبد القاهر (الجــزء الأول)

نوع المستند : المقالة الأصلية

المؤلف

بجامعة الأزهـر ــ فــرع دســـوق

المستخلص

فإنه لمن الأهمية بمکان أن نعلم القارئ بدءًا " أن اللغوي الإنجليزي "جون روبرت فيرث" (ت/1960م) قد أسس نظرية في اللغة بعنوان "النظرية السياقية"، وقد تناول في نظريته تلک: الوظائف الأساسية المکونة للمعنى، وسياق الموقف،... والمصاحبة،... وأهمية السياق في النظرية السياقية"([1]).
ومن ثم فإن هذه النظرية السياقية على رغم کونها "أحد ثلاثة أعمال بارزة فيما ألفه فيرث"([2]) إلا أنها مع ذلک لم تسلم من النقد "إذ إن فيرث في نظريته للمعنى لم يدع مجالًا لفکرة علاقات المعنى التي تضبط مجموعة المفردات المعجمية.. کما أنه لم يترک مجالًا لفکرة الإشارة مع أن الإشارة والمعنى معًا يغطيان الجزء الأکبر لما يفهم من کلمة معنى... ومن هنا حق لنا القول: إن الکلمة عندما توضع في سياقات مختلفة... تمتلک إمکانات معينة کل منها يبرز في موضعه المناسب"([3])؛ لأن هذه الحقيقة قد قررها عبد القاهر قبل فيرث بتسعة قرون حين قال: "وإنک لتجد اللفظة الواحدة قد اکتسبت فيها فوائد، حتى تراها مکررة في مواضع، ولها في کل موضع من تلک المواضع شأن مفرد... ومن خصائصها التي تذکر بها.. أنها تعطيک الکثير من المعاني باليسير
من اللفظ"([4]).

إذن فقول عبد القاهر السابق يؤکد ضمنًا أسبقية عبد القاهر على مستوى الفکر، کما أنه يتضمن – في الوقت ذاته – اعترافًا – ولو إلى حد ما- بأن فکر عبدالقاهر يَجُب ما عداه، وبخاصة إذا نظرنا إلى أفکاره نظرة حدسية؛ لأن النظرة المباشرة قد لا تؤدي إلى شيء وعندئذٍ لا يکون لنا بد من إعادة تصفح أوراقه المرة تلو الأخرى؛ لأن أفکار عبد القاهر لا تفتح أبوابها عند القراءة الأولى ولا الثانية، وقد يستغرق الأمر بضع سنوات من أجل انتظار لحظة التنوير، وبالطبع فلا عجب من ذلک؛ لأن هذا الذي أحدثک به أيها القارئ الکريم عن لحظة التنوير تلک، هو نفسه ما حدث لي مع هذه النظرية، التي تلتقي في بحثها الثاني مع "الفصل الرابع" من بحث سابق لي بعنوان "مفهوم المعنى الکنائي في فکر الإمام عبد القاهر الجرجاني"([5])، حيث کتبت فصلًا بعنوان "نظرية النظم والمعنى الکنائي"([6])، أي بمعنى دور کل منهما في الآخر؛ "لأن کلمة الدور تعني توقف کل من الشيئين على الآخر"([7]) على نحو ما يقول المناطقة.
وهکذا فإن هذه الفکرة التي کانت ماثلة في رأسي وقت کتابة هذا البحث المشار إليه قد توقفت عند حدود فکرة البحث ولم تتعداه، إلا بعد أن قرأت في بحثين آخرين لناقدين کبيرين. طرح أحدهما إشکالية التقسيم الثنائي والثلاثي للکلام عند عبد القاهر([8])، وحاول الآخر حلها([9]).
ومن هنا تبادر إلى ذهني أن الفصل الرابع في بحثنا المشار إليه قد حل هذه الإشکالية – والتي لم أکن على علم بها وقت کتابته-  لأنه قد کان بمثابة الجواب عليها؛ وعندئذ فکرت في کتابة البحث الثاني ليکون ردًا على هذه الإشکالية التي طرحتها في البحث الأول من هذه النظرية، ومن ثم فإن سأل سائل وقال: ما الفائدة المرجوة من بيان "فاعلية اللفظ والنظم في سياق المعنى، ومعنى السياق"، وهي فاعلية  لاحقة لسابق عليها في بحثنا "مفهوم المعنى الکنائي"؟
وعلى ذلک فالجواب عن هذا السؤال المفترض أن نقول: "إن الاستعارة کالکناية في کونها تندرج في إطار نظرية "المعنى: ومعنى المعنى"، ولکنها – في الوقت ذاته – تمثل فرعًا آخر من فروع تلک النظرية التي ما زالت – من وجهة نظري – في حاجة إلى بحث محوري يجمع أفکارها المتواترة فيما بين الأسرار والدلائل، ويوحدها في بحث متواصل الأجزاء. هذا بالإضافة إلى أن "فاعلية اللفظ والنظم" في البحث الثاني من هذه النظرية لم يتعرض لهما أيٌّ من الباحثين، وهذا في حد ذاته – يهيئ لي ذلک الطريق الذي سلکته منذ سنة ألفين، أي وقت کتابة بحثنا "مفهوم المعنى الکنائي".
وإذن فيجب أن يؤخذ في الاعتبار بأن ما کتبناه في الفصل الرابع في بحثنا المشار إليه سوف نضمه إلى هذه النظرية في فصلها الثاني في الطبعات التالية؛ لکونه جزءًا منها، ولکون نتائجه تترتب على ما تتمخض عنه هذه النظرية من نتائج.
ومن ثم فلو أمعنا النظر قليلًا في هذه النظرية لوجدنا أنها في البحث الأول قد حلت إشکالية التقسيمين الثنائي والثلاثي لکون أحدهما، وهو التقسيم الثنائي، - وذلک وفقًا لما أوضحناه في البحث الثاني – يتناول حالة اللغة والفکر في اللحظة المثلى من الإبداع عند نقطة محورية، أي أنها بالقياس إلى غيرها تمثل نقطة المحور في دائرة الإبداع بحيث تتلاشى الفواصل بين "اللفظ – النظم" أي بين "معاني الکلم"([10])
و"معاني النحو"([11]) عند تلک النقطة التي يتحقق فيها ما يعود حسنه إلى اللفظ والنظم معًا"([12])، وهذا يعني أن المُنْتَج من التقسيم الثنائي سوف يعود لبراعة إنتاجه إلى القسم الثالث من التقسيم الثلاثي؛ لأنه يمثل – وهذا ما أوضحناه في البحث الثالث – القسم الأول من بين سبعة أقسام تنتمي إلى هذا القسم.

أما التقسيم الثلاثي، والذي يعني المُنْتَج، والذي يمثل فيه مُنْتَج اللفظ والنظم قسمًا واحدًا من بين سبعة أقسام، فإنه أيضًا يحتوي على قسمين يعودان إلى النظم، وعلى ثلاثة أقسام تعود إلى اللفظ بحيث تستکمل الأقسام السياقية للأسلوب تعدادها في اثنى عشر قسمًا أسلوبيًا، قد تم إنتاجها من خلال دمج المفاهيم الثلاثة للنحو([13])، مع کل من قسمي المعاني العقلية، وقسمي المعاني التخييلية([14]) وذلک وفقًا لما سوف تفصح عنه هذه النظرية فيما بعد.. أما کيف تکونت فکرة الدمج هذه من خطين أحدهما رأسي، والآخر أفقي؟ وکيف حدث الدمج بينهما عند نقطة التعامد، والتي تمثل محور دائرة الإبداع؟ فإن هذا ما سوف تفصح عنه هذه النظرية طبقًا لما ورد فيها، لأن هذه النظرية – ولعل هذا من المفارقات – قد ظهرت عند غيرنا أولًا على أنها من الإشکاليات، ثم انجلت بعد ذلک عندنا على أنها نظرية يصعب الاستغناء عنها!


 

الكلمات الرئيسية