صـفـات الـمـفـلـحـيـن کـما صـوَّرتها سـورة الـمؤمنون دراسة بلاغية تحليلية تأملية

نوع المستند : المقالة الأصلية

المؤلف

کلية الل غة العربية بجرجا ـ جامعة الازهر

المستخلص

فإنَّ القرآن الکريم " هو الفصل ليس بالهزْل , من ترکه من جبَّارٍ قصمه الله , ومن ابتغى  الهُدَى فى غيره أضلَّه الله , وهو حبلُ الله المتين , وهو الذِّکر الحکيم , وهو الصِّراط المستقيم , هو الذى لا تزيغ به الأهواء , ولا تلتبس به الألسنة, ولا يشبع منه العلماء , ولا يَخْلَقُ على کثْرة الرَّدِّ, ولا تنقضى عجائبه ... مَنْ قال به صَدَقَ, وَمَنْ عَمِلَ به أُجر , ومن حَکَم به عدل, ومن دعا إليه  هَدَى إلى صراط مستقيم " ([1]) .
هذا , وکُلَّما أمعن المُتأملون النظر والفکر فى القرآن الکريم  وجدوا أنفسهم أمام بحر من المعانى لا ساحل له ,فمعانيه متجدِّدة حيَّة تتجدَّد بتجدُّد الزمان والمکان ,ومع کونه معجزة بيانية خالدة , فهو –کذلک – معجزة تشريعية ربَّانية يُهذُّب أخلاق الأُمَّة , ويسمو بقيمها ,ويوضِّح لها عقيدتها, ويرسم طريقها فى الحياة ,ويُحِّدد تصوُّرها للکون, إذا هى أخذت به ,وجعلته منهجها , ودستور حياتها ؛ إذ إنَّ الأُمَّة بحاجة ماسَّة لتدبُّر کلام ربها , وفهم معانيه ؛ لذلک انصرفت إليه جمهود  علماء اللغة  والبيان لمعرفة أساليبه , وبلاغة بيانه , وتحليله ,أملاً فى الوقوف على  أسرار إعجازة ,کُلٌّ بحسب ذوقه وطاقته وبشريَّته ؛ لأنه  من المعلوم لديهم أنَّ القرآن الکريم " جمع بين وجوه الحسن , وأسبابه , وطرقه , وأبوابه " ([2]) .
ومن يرجع إلى القرآن الکريم يجد فى مواضع جمَّة منه, يُحدثنا عن الإيمان مُجسَّداً فى أخلاق وفضائل , بما يفيد أن قيمة الشخصية المؤمنة , تتمثل فى إيمانها الذى يؤدِّى إلى فلاحها فى الدُّنيا والآخرة , وأنَّ هذا الإيمان لن يتحقَّق إلاَّ بالسلوک القويم المبنى على الاتصاف بالفضائل , والابتعاد عن الرذائل , وأن الاتصاف المذکور ,لابد أن يکون له أثره البالغ ,ودورُه المهم فى بناء مجتمع طاهر عفيف ([3]) , بما تحمله هاتان الکلمتان من  مضامين من شأنها إقامة مجتمع تتحقَّق فيه صفات الکمال  الإنسانى المنشود , والذى دعا إليه القرآن الکريم , وأرشدت إليه السُّنَّة النبوية الشريفة ,ولمَّا کان الأمر کذلک ,وکانت الآيات التى يدور معناها حول فلاح المؤمنين ,وصفاتهم جِدَّ کثيرة, وقد تنوَّعت فيها الأساليب وتعدَّدت , تلک الأساليب التى يکون البحث فيها من خير ما تفنى فيه الأعمار , ومن أجلِّ ما يُتقرَّب به إلى الواحد الدَّيان ,آثرت أن تکون تلک الدِّراسة واحدةً من الدراسات التطبيقية التى تتناول جانباً من جوانب صفات المؤمنين المُفلحين فى إحدى سور القرآن الکريم ؛ للنَّظر والتأمُّل فى تلک الصِّفات ,ولکى أصل إلى مُبتغاى فيما ذکرتُ جعلت تلک الدراسة بعنوان :(صفات  المفلحين کما صوَّرتها سورة المؤمنون ) " دراسة بلاغية تحليلية تأمُّلية " .
وقد حاولْت فى تلک  الدِّراسة بيان ما فى التعبير القرآنى من أسرار بلاغية , مُستعيناً فى ذلک بما يُفهم من کلام مفسِّرينا جزاهم الله عنَّا خير الجزاء ، ومما هو جدير بالذکر فى هذا المقام هو : أنَّ سورة (المؤمنون) قد تناولها بالدراسة البلاغية باحثون جادُّون فى مقدِّمتهم أستاذنا الدکتور بسيونى عبد الفتاح فيود, فى بحث عنوانه (من هدى القرآن الکريم " تفسير بلاغى لسورة
المؤمنون " , والدکتورة /عائشة فريد، فى بحثها :( من بلاغة سورة المؤمنون ), ذلک إلى جانب کتاب للدکتور فاضل صالح السامرائى، بعنوان : ( لمسات بيانية فى نصوص من التنزيل ), تناول صاحبه فى  جزء منه :( الآيات الأولى من سورة المؤمنون  موازناً بينها , وبين الآيات المتشابهة معها من سورة المعارج ,وقد أفدت من البحثين الأول والثالث ؛ معترفاً لصاحبيهما بالفضل والسبق , غير أنِّى وجدت بعض الدقائق والأسرار البلاغية التى تشتمل عليها الآيات المتناولة , أردت أن أشرف بتسجيلها بقلمى ,  بعد أن اهتديت إلى  تلک الدَّقائق ,وهذا الأسرار بعقلى , مستأنساً بما ألمح إليه أهل التحقيق من بلاغيين ومفسِّرين فى کلامهم حول ما ميَّز الله – عز وجل – به  المؤمنين من النعوت والأوصاف التى تکون سبباً فى فلاحهم دنيا وآخرة , سائلا ًالمولى – سبحانه – أن أکون قد وُفِّقت إلى ما اهتديت ُ إليه من أسرار ودقائق , وأن يوفِّق أهل العلم للبحث عمَّا فاتنى من تلک الأسرار التى تضمَّنتها الآيات الکريمة .

وتتضح أهمية  الموضوع بالبحث فيما يلى :
أولاً : أنَّه متعلِّق بالقرآن الکريم الذى هو المعجزة الخالدة .
ثانياً : أنَّ مثل هذا النوع من الدراسات لبعض الآيات القرآنية يؤدِّى بالضرورة إلى الکشف عن مزايا النَّظم القرآنى عن طريق ما يحويه من لطائف بيانية دقيقة , يتميَّز بها النظم المذکور عن غيره .
ثالثاً: بدراسة تلک الآيات ندرک أين نحن من التحلِّى بالصفات  والفضائل التي تضمَّنتها ؛ لکى نکون من المفلحين , وندرک کذلک کم وکيف تخلَّت عنها الکثرة الکاثرة من أفراد الأمة ومجتمعاتها , حتَّى تقهقر  إيمانها إلى أن فقدت سيادتها وريادتها ,وقيمتها , وعزَّها , ومجدها بين أمم وشعوب الأرص؟
رابعاً : هذه الدِّراسة أنموذج من التطبيق المقيَّد برسم العلاقة بين معانى القرآن الکريم وألفاظها ,کما أن الدراسة المذکورة أنموذج طيِّب لتوظيف البلاغة فى الکشف عن البلاغة العُليا في النَّص القرآنى .
خامساً: لم أجد فى مکتبة الدراسات البلاغية  مثل هذه الدراسة المستقلَّة – فيما  أعلم – وإن کانت هناک بعض الرشفات المُتعلِّقة بصفات المفلحين , والمُتناثرة  هُنا وهُناک.
وقد اقتضت طبيعة هذا البحث أن يأتى فى مقدِّمة وتمهيد , ومبحثين للنَّص المنوط به البحث يتبعهما خاتمة , وفهارس للمصادر  والمراجع ,وأخرى للموضوعات المتعلقة بالبحث .
أمَّا المقدِّمة: فتناولت فيها أهمية الموضوع , وأسباب اختيارى له , وخطة البحث, والمنهج الذى سلکته فى کتابة هذا البحث .
وأمَّا التمهيد : فعنوانه : (بين يدى البحث ) وتحدَّثت  فيه عن مطالب أربعة :
المطلب الأول: تناولت فيه :التعريف بسورة ( المؤمنون ) فى القرآن الکريم من حيث اسمها , وترتيبها فى المصحف الشريف , ومکان نزولها , وفضلها , ومناسبتها لما قبلها , وأغراضها ومقاصدها, وسبب تسميتها بما سُمِّيت به .
والمطلب الثانى : خصَّصته للحديث عن الغاية من ذکر أوصاف المؤمنين فى القرآن الکريم .
أمَّا المطلب الثالث : فألقيت فيه الضوء على علاقة صفات المؤمنين الواردة فى مطلع السورة الکريمة بموضوعاتها .
والمطلب الرابع: کان عن التلازم بين أوصاف المؤمنين فى موضوعاتها .
ثم تأتى بعد ذلک الدراسة والتحليل لصفات المفلحين کما صوَّرتها السورة الکريمة , وقد جاءت تلک الدِّراسة فى مبحثين :
المبحث الأول: بعنوان :(المعنى العام للآيات التى  تضمَّنت صفات المفلحين فى السورة الکريمة ) وقد کان هذا المبحث تمهيداً للذى يليه , حيث أبنت فيه عن أنَّ الآيات المذکورة رکَّزَتْ على جانب من السلوکيات مع بيان جزاء الملتزمين بها ,واضعة ً للمؤمنين سبيل الفلاح وطريقه .
والمبحث الثانى:عنوانه :( تأمُّلات فيها تضمَّنته الآيات الکريمة من أسرار بلاغية), وقد جاء هذا المبحث متمِّماً لصورة البحث , حيث قام المبحث المذکور بتجلية المعانى القرآنية الخاصة بالصِّفات التى اشتملت عليها تلک الآيات من خلال الدِّراسات البلاغية التى هى عماد الدراسة وأهم وأبرز أجزائها .
وختمت هذا البحث بخاتمة سجَّلْتُ فيها خُلاصة البحث وأهم نتائجه .
وبالطَّبع تأتى بعد ذلک الفهارس الفنِّية الخاصة  بمصادر البحث ومراجعه , متبوعة بفهارس للموضوعات .
وقد کان عملي فى هذا البحث على النحو التالى :
1- قراءة النَّص القرآنى قراءة تأمُّلية دقيقة , متناولاً الآيات الکريمة آية آية تناولاً من خلال التَّذوُّق الفنى , مستعيناً باللطائف البلاغية المُختلفة التى تکشف عن أسرار النَّص القرآنى , بعد تحسُّس الجماليات البيانية التى اهتديت إليها من خلال إطالة  النَّظر فيها کتبه المفسِّرون والبلاغيون والباحثون القدماء منهم والمعاصرون .
2- محاولة التَّدبُّر البيانى لکل آية على حدة  ,من خلال النظر إلى سياقها ومقامها الذى وردت فيه ,مفسِّراً إياها تفسيراً بيانياً عن طريق الرَّبط بينها وبين ما سبقها من ناحية , وبينها وبين ما لحقها من ناحية أخرى ؛ مستدلاً بذلک الصنيع على وحدة الموضوع متمثِّلاً فى (السياق , والسياق , واللحاق)؛ ذلک توصُّلاً لدقة التعبير القرآني فى بيانه ونظمه , ولعلاقة الآى بعضها ببعض , بصفة أنَّ النَّص بناءٌ واحدٌ متماسکٌ .
3- تحليلي للآية الکريمة يکون بما يُفسِّرها من القرآن أو السُّنة النبوية الصحيحة, أو منهما معاً , أو بما ورد فى أسباب نزول الآية , فإن لم أجد فبما ثبت من أقوال المحقِّقين من أهل العلم الفضلاء (مفسِّرين , وأصوليين , ومُحدّثين , وبلاغيين ) مِمَّن لهم صلةُ وثيقة  بکتاب الله – عز وجل – وسُنَّة نبيه e فى کتاباتهم وأفکارهم , ذلک فى استظهار بعض المعانى التى أقوم بعرضها ؛ لأعضِّد بها رأيى .        
4- إذا احتمل الکلام معنيين أو أکثر , وکان حمله على أحدهما , أو أحدها أوضح وأشدَّ موافقة للسياق کان الحمل عليها أولى .
5- القيام بالرجوع إلى القراءات المُختلفة الواردة فى الآية الکريمة , إنْ وجدت تلک القراءات , مُحلِّلاً إيَّاها کاشفاً عن دلالة النَّظم فيها , وعن وظيفته التعبيرية بما يخدم السياق , أو الوجه الذى وردت عليه القراءة , وذلک حتى يخرج البحث فى صورة مرضيَّة يرتضيها القارئ  والباحث على السواء .
6- بيان ما يُثيره الحرف الواحد ؛ أو الکلمة القرآنية من معان کثيرة لا نجدها إذا ما استُبدل ذلک الحرف , بحرف آخر أو اللفظة القرآنية بلفظة أخرى ؛ للدِّلالة على أنَّ الإعجاز القرآنى يتکشَّف لنا من خلال إيثار لفظة على أُخرى , أوحرف على آخر , ومن مراعاة الفروق الدقيقة بين الألفاظ؛ باعتبار أنَّ القرآن الکريم يختار من الألفاظ ماهو أقوى دلالة على المعنى المُراد, بحيث لو استُبدل لفظ أوحرف بآخر لاختلَّ المعنى , وضاع المراد منه ، ومثل ذلک يُقال فى الجمل القرآنية ,وفى موضع الحذف والذکر, وفى الفواصل القرآنية, حيث إنَّ کُلَّ کلمة , وکُلَّ حرف ,بل إنَّ کُلَّ جملة فى القرآن الکريم متمکِّنةٌ فى موضعها ,غير قلقة ولا نابية ولا مضطربة , ولکنَّها مناسبة لسياقها ,متلائمة مع الغرض الذى سيقت من أجله, والموقف الذى يتطلَّبها ؛ ومن ثمَّ فهى تتجلَّى آثارها فى النظم ؛لإحداث التأثير المطلوب فى نفس المتلقِّى .
7- وأخيراً وليس آخراً : استدعاء الهمَّة فى الکشف عمَّا يتعلَّق بالدقائق والأسرار الخاصة بعلم المتشابه اللفظى لبعض الآيات القرآنية , مع الإحاطة بمعرفة يسرِّ التغاير أو التقارب فى النظم بين الآيتين أو الثلاث إذا کان بينها أو بينها تشابه لفظى, ذلک من خلال تتبُّع سياق الآيات ومساقاتها حسب ورود کُلِّ آية , وتذوُّقها فى سياقها " وکمال تأليفها ,ودقة ترتيبها على نحو لايتأتى إلاَّ فى أسلوب القرآن الکريم الذى عُرف بانتظامه العجيب ,ونسجه البليغ على مستوى الأدوات والصيغ والتراکيب "([4]) الدَّالة على أنَّ في کُلِّ آية شواهد ناطقة لرعاية مقتضى الحال ، وداعية المقام .
وبعد :
فإنى أحمد الله – عز وجل – على ماوفَّق وأعان , وأرجو أن أکون قد وُفِّقت فيما إليه قصدتُ , وأن ينفع اللهُ – تعالى – بعملى هذا , فهو وحده يشهد أننى لم آل جهداً , ولم أدَّخر وسعاً فى إخراج هذا العمل المتواضع على هذا النحو الذى جاء عليه فى صورته هذه , کما أننى لا أستطيع الادعاء بأنَّ الموضوع قد استوعب کُلَّ عناصره , واستوفى کُلَّ شئً يخصُّه , فهذا ادعاء لا يتفق مع الرُّوح العلمية , إذ إنَّ الکمال لله – عز وجل - وحده , وإنما أستطيع أن أقول : إننَّى بذلْتُ جُهداً مُخلصاً ، فإن کان التوفيق قد حالفنى , فذلک فضل من الله ومِنَّة , وإن کانت الأخرى فمن نفسى , وحسبى أننى أخلَصْتُ النِّيَّة , وبذلتُ قُصارى جهدى . واللهَ أسأل يجعل عملى هذا خالصاً لوجهه الکريم .
کما أسأله – سبحانه – أن يوفِّقنا دائما لخدمة لغة القرآن الکريم , وأن يهدينا سواء السبيل , وأن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الکريم , إنَّه نعم المولى ونعم النصير.     ( ربَّنا عليک توکَّلْنا وإليک أنبنا وإليک المصير )
 
 

الكلمات الرئيسية