الملمح الأدائي التطريزي (التنغيم) في القراءات القرآنية وأثره في توجيه المعنى

نوع المستند : المقالة الأصلية

المؤلف

کلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات ـ جامعة الأزهر فرع الإسکندرية

المستخلص

فلقد امتازت لغة القرآن بإيقاعيتها، وموسيقاها، فمثلت صورة للتناسق الفني فيه، ومرآة عاکسة لتصوير معانيها، فإيقاعاتها لا تنبع من وزن شعري،
أو تفعيلات کالشعر العربي ؛ وإنما تنبع من مکنونات اللغة نفسها، بائتلاف أصواتها وتساوق ألفاظها وتنافسها وقابليتها التناغمية على أداء المعنى ودلالاتها عليه([1]) .

واللغة العربية لغة إيقاعية تقوم على مبدأ المقاطع التي نلمح من خلالها تناسباً بين الصوامت والصوائت، سواء على مستوى الألفاظ أو على مستوى التراکيب في المنظور والمنثور. وقد دهش العرب حينما سمعوا القرآن الکريم، وتحيروا في أمر هذا الکلام الذي تستلذه الآذانُ، وتقشعرّ منه الجلودُ وتطمئن به القلوب، وقد جسّد الوليدُ بن المغيرة هذه الحيرة حين قال يصف القرآن الکريم في مقولته المشهورة:" والله لقد وضعته على أقراء الشعر فما هو بالشعر، وما هو بالسجع ولا الکهانة، وإن أعلاه لمثمر، وإنَّ أسفله لمغدق، وإنَّه ليعلو ولا يُعْلى عليه " ([2]) ، ويبدو الإيقاع واضحاً في القرآن الکريم وقراءاته، ولکن لهذا الإيقاع طريقته الخاصة التي تختلف عن الشعر المقيد بالأوزان والقوافي، فهو خاص بالقرآن وحده، إذ هو " إيقاع في نطاق التوازن، لا إيقاع في نطاق الوزن، فالوزن في العربية، والتوازن في الإيقاع للنثر، والذي في القرآن إيقاع متوازن لا موزون" ([3] فالتناسق في النص القرآني يبلغ الدرجة العليا في إحداث جماليات التصوير الفني.
إن نظم القرآن ونغمه ينبعث من الحروف والکلمات والأسلوب، فحروفه متآخية في کلمات ذات إيقاع موسيقي ونغم تهتز المشاعر منها اهتزازاً تسکن النفوس مطمئنة راضية، ويختلج الوجدان متأثراً ومنفعلاً ويطرب القلب حين يدرک المعنى مصحوباً بإيقاع مؤثر يرهف الحس ويرققه. ولقد حظيت القراءات القرآنية باهتمام المسلمين منذ نهضتهم الأولى على يد رسول الله – r -، وصحابته الکرام إلى يومنا هذا ؛ حيث تجرّد عددٌّ کبيرٌ من علماء المسلمين لخدمة هذا الکتاب، بل وأفنوا أعمارَهم بتتبع کلّ صغيرة وکبيرة حول هذا العلم، وسطّروا ما جادت به عقولُهم وأفکارُهم في مؤلفات أصبحت مفخرة المسلمين.
فلقد کان – r- يعلِّم الصحابةَ قراءة القرآن ويسمع منهم، ويقرهم عليها تخفيفاً وتوسعة من الله عز وجل فأذن وأباح بقراءة القرآن بوجوه من النطق التي اعتادوها وألفوها ونشأوا عليها ، ومما لا شک فيه أن  من تمام إعجاز القرآن أن ينزل القرآن على أکثر من حرف ؛ ليعجز العرب- کافة - عن معارضته والإتيان بمثله، بل بآياته من مثله.
ولقد وقع اختياري على القراءات القرآنية ؛ لأن موضوع القراءات القرآنية من الموضوعات المهمة في الدرس اللغوي العربي ؛ حيث إن الوقوف على  دراسة هذا الموضوع يکشف الکثير من القضايا اللغوية (الصوتية، والصرفية، والنحوية، والدلالية) المهمة وأثرها في تعدد المعاني وتوسّعها، وأن القراءات التي يتغاير فبها المعنى کلّها حق، وکلّ قراءة مع الأخرى بمنزلة الآية مع الآية، وأنه يجب الإيمان بها کلّها واتباع ما تضمنه من المعاني علماً وعملاً.، ولا يجوز ترک موجب إحداهما لأجل الأخرى ظناً أن هذا تعارض، يقول ابن مسعود– t-:" من کفر بحرف فقد کفر به کلّه " ([4]). کما أن علوم اللغة العربية نشأت في أحضان القرآن الکريم ؛ بل کان سببها الأول في نشأتها ؛ فکانت قيمة الدرس من قيمة المدروس، حيث کانت الفروق الصوتية الأدائية للقراءات عاملاَ أساساً في نشوء الدرس الصوتي، وهذا ما يوضح العلاقة القوية بين علم القراءات وعلم الأصوات، فالقراءات القرآنية تحتوي على مجموعة من الانزياحات، فمنهم من يحقق الهمزة، ومنهم من يخفف، ومنهم من يميل والآخر يحرِّک، ومنهم من يفخِّم وآخر يرقق، وغيرها من الثنائيات التي جمعتها القراءات

الكلمات الرئيسية