الإضافة بين متطلبات الدلالة، ودوافع الصناعة النحوية

نوع المستند : المقالة الأصلية

المؤلف

کلية الآداب والعلوم الإنسانية – جامعة جازان

المستخلص

  فهذا بحث في ( الإضافة ) وسم بعنوان ( الإضافة بين متطلبات الدلالة ودوافع الصناعة النحوية)، وقد کان الدافع إلى الخوض في غماره ما وجدته من نصوص رويت عن النحاة تخص هذا الباب ودلالته يبدو ظاهر بعضها متناقضا مع بعض ،هذا إلى جانب ما بدا عندهم من  تفسيرات لحياکة قواعد ذلک  الباب قد تتهم بالتکلف ؛ولاسيما بعد أن أخفى النحاة الأساس الذي بنوها عليه  .
  لقد کان بيني وبين باب الإضافة إلف بعيد ، وکانت تدور بخلدي بعض الفکر التي کانت تسوقني قبل إلى حکم قاصر جائر على النحاة بأن الصنعة قد أکسبتهم جانبا کبيرا من التکلف ، وبأن رغبتهم في طرد بعض الأبواب المتشابهة على وتائر متفقة ، وجعلها تنتظم تحت قواعد واحدة حملهم على ليِّ عنق الدلالات أحيانا لتتجه في الاتجاه الذي يمکِّنهم من طرد هذه القواعد وتعميمها  .
  فقد کان يأسر تفکيري کثيرا موقفهم من تقسيم الإضافة إلى لفظية ومعنوية ، وقولهم الإضافة اللفظية هي التي يحقق فيها المضاف إليه للمضاف نوعا من التحديد المطلق التام (التعريف) أو يحقق له نوعا من التعيين دون التعريف وفوق العموم ، وهو المسمى عندهم (تخصيصا)؛ فقولهم (غلام زيد) حققت فيه الإضافة للمضاف تعريفا جعله يُمَيَّز من بين جملة الغلمان بأنه ليس غلام أحد إلا زيدا، وقولهم ( غلام رجل ) يضفي على الأول ضربا من التخصيص دون التعريف، فهو ليس غلام امرأة مثلا، ولکنه لا يصل إلى درجة تعريف الأول ، إذ لا  يجيب عن قولنا : غلام أي الرجال هو؟
  وهذا کلام تعلمناه، وسلمنا به من أول وهلة، لکن صنيع النحويين بعد ذلک کان يبدو لافتا للنظر داعيا للانتباه ، وذلک الصنيع عندما تکلموا عن نوع آخر من أنواع الإضافة سموه ( الإضافة اللفظية ) أو ( الإضافة غير المحضة ) حيث قالوا : إنها إضافة لا تحقق للمضاف تعريفا ولا تخصيصا ، وأنه باق على حاله الدلالية – من حيث التنکير – التي کان عليها قبل الإضافة ، فإذا وضعنا کلمة (ضارب) بدلا من کلمة ( غلام ) في المثالين السابقين تغير الوضع الدلالي  تماما  عند النحاة ، فصار قولنا ( ضارب زيد ) لا يتسم بأي تعريف أو تخصيص ، ولم تضف الإضافة على ذلک الضارب المذکور شيئا، فهي لم تحدده من بين جملة الضاربين، ولم تخصصه من بينهم ، لا شک أنني ساعتها کنت أتساءل کما يتساءل کثيرون  قائلا لنفسي : هل تتساوى درجة الشمول الموجودة في قولي (ضارب ) بنفس الدرجة الموجودة في قولي ( ضارب زيد ) ، ألم تحدد هذه الإضافة هذا الضارب من بين جملة الضاربين ، ألم تخرجه من دائرة الاحتمال الدلالي من أن يکون ضاربا لعمرو أو جعفر ...... إلخ .
ثم إنني بعد ذلک کنت أرقب کتب النحو حتى أجد مخرجا لذلک ، أو إجابة لذلک مسکتة، فأطلع على قولهم " إن أصل قولنا ( ضارب زيد ) ( ضارب زيدا ) ، وأن التخصيص الواضح من الإضافة لم يکن من صنيع الإضافة ، وإنما کان مستفادا من دلالة الترکيب الأصلي الذي هو بتنوين اسم الفاعل وإعماله .
وما کانت مثل هذه الإجابات إلا مخرجة لي من حيرة إلى أکبر منها ، إذ کانت تسوقني إلى تساؤل آخر ، ألا وهو کيف نقول : إن أصل الإضافة في قولنا (غلام زيد ) هو کلمة ( غلام ) ثم نقول في ترکيب مشابه  وهو ( ضارب زيد ) : إن الأصل فيه ضاربٌ زيدا ؛ فنذکر في أصل الأول المضاف فقط ، ونذکر في أصل الثاني المضاف والمضاف إليه کليهما في صورة أخرى هي صورة الإعمال .
وکنت أقول:إن الإنصاف هنا يقتضي توحيد المعيار، والکيل بصاع واحد ، فإما أن يقال : إن أصل ( ضاربُ زيدٍ ) هو ( ضارب ) فقط ، کما قيل : إن أصل (غلامُ زيدٍ ) هو ( غلام ) فقط ، وساعتها تکون  کل إضافة من الإضافتين قد أصابت نوعا معينا من الدلالة ، فتکون الإضافات کلها معنوية ، أو يعکس المعيار على الطرفين کليهما؛ فيقال: إن أصل (غلام زيد) هو ( غلامٌ لزيد ) بذکر المضاف والمضاف إليه بوساطة حرف الجر بينهما، وأصل (ضاربُ زيدٍ) بالإضافة هو (ضاربٌ زيدًا ) بالتنوين ، وحينئذ تکون الإضافات کلها لفظية ؛ لا قول فيها عن إفادة دلالة تعريف أو تخصيص ، إذ إن دلالة التعريف أو التخصيص ستکون حينذاک مستفادة  من الأصل لا من الإضافة .
لقد ساقني تأمل هذا الأمر فترة ليست بالقصيرة إلى الظن بأن دوافع الصناعة النحوية ، ورغبة النحاة في تعليل قواعدهم وتعميمها قد أدت إلى تعددية المعايير ، ولي عنق الدلالة حتى توافق تصوير قواعدهم ، وتتفق مع مخرجاتها ، ولکنني قلت إن الأمر يحتاج إلى بحث يستقرئ هذه المسألة من أصولها وجذورها الأولى في کتب التراث النحوي ، شافعا هذا الاستقراء برصد للدلالة المستفادة من الإضافة ، ومن الصورتين اللتين ذکرهما النحاة لنوعي الإضافة في النصوص العربية التي تنتمي إلى عصور الاستشهاد اللغوي .
وشرعت في ذلک بفضل من الله المنان ، وبينا أنا أدرس هذا الأمر وأجمع مادته ، وأتأمل علل النحاة فيه، وفي القول بهذا التقسيم ، وأصل کل قسم ، إذ بدائرة الحيرة العلمية في ذلک تتسع، ذلک أنني أردت أن أفسر إشکالا فاصطدمت بإشکال أکبر .
نعم، فقد کنت أحاول رصد الدلالة التي فهمها النحاة من الإضافة اللفظية ، واختلافها عن دلالة الأصل الذي ذکروه ، وکذلک الدلالة التي فهموها من الإضافة المعنوية ، واختلافها عن دلالة الأصل الذي ذکروه أيضا ، وحين حاولت رصد ذلک ترکت القراءة في باب الإضافة لأقرأ  في باب إعمال اسم الفاعل باعتبار صيغة إعماله أصلا للإضافة اللفظية غير المحضة ؛ وحينها راجعت قول النحاة في شروط إعمال اسم الفاعل غير المحلى ب ( أل ) عمل فعله ، فوجدتهم يشترطون دلالته على الحال أو الاستقبال ، وأنه لا يجوز إعماله إذا دل على المضي ، غير أن کتب النحو في هذا الموضع تذکر لنا رأي الکسائي الذي يخالف فيه إجماع النحاة على هذا ، وتذکر الکتب النحوية أن الکسائي يجيز إعمال اسم الفاعل إذا دل على المضي ، مخالفا کلمة النحاة ، ويستشهد بقوله – تعالى - : " وَکَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيد"
ليس في المخالفة من حيث هي إشکال، فالخلاف النحوي موجود ، وکائن، وسيظل ؛ وإنما الإشکال يتأتى من جانب آخر ، وهو أنه بينما کتب النحو تجمع على رأي الکسائي هذا ومخالفته لما عليه کلمة النحاة في فهم دلالة هذا الترکيب على الزمن إذ تورد له کتب التراجم مناظرة أخرى بينه وبين القاضي أبي يوسف في حضرة هارون الرشيد  حيث أورد  ياقوت الحموي في معجم الأدباء وأورد غيره  قول الکسائي : "اجتمعت أنا وأبو يوسف القاضي عند هارون الرشيد، فجعل أبو يوسف يذم النحو ويقول: وما النحو؟ فقلت - وأردت أن أعلمه فضل النحو - : ما تقول في رجل قال لرجل: أنا قاتلُ غلامِک؟ وقال له آخر: أنا قاتلٌ غلامَک، أيهما کنت تأخذ به؟ قال آخذهما جميعا، فقال له هارون: أخطأت، وکان له علم بالعربية، فاستحيى وقال: کيف ذلک؟ قال: الذي يؤخذ بقتل الغلام هو الذي قال: أنا قاتلُ غلامِک بالإضافة، لأنه فعل ماض، وأما الذي قال: أنا قاتلٌ غلامَک بالنصب فلا يؤخذ، لأنه مستقبل لم يکن بعد، کما قال الله عز وجل: (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِکَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ  ). فلولا التنوين مستقبل ما جاز فيه غداً، فکان أبو يوسف بعد ذلک يمدح العربية والنحو.
وقفت أمام هذه الرواية ردحا من الزمن مندهشا متأملا ، فالرواية مجمع عليها في مصادر کثيرة ، ثم إنها مروية عن الکسائي الذي تروي کتب النحو عنه أنه لا يمانع فهم دلالة المضي من اسم الفاعل حال تنوينه وإعماله ، ثم إذا بهذه الرواية تؤکد ضد ما في کتب النحو ؛ ذلک أن فيها نصًّا صريحا على أنه لا يجوز توقُّع دلالة المضي من اسم الفاعل عند تنوينه وإعماله فيما بعده ؛ ذلک أن ( قاتلٌ غلامَک ) بتنوين قاتل ونصب غلامک لا يُتَوَهَّم معها دلالة  مضي ، ولو لم يکن ذلک لما لزم أن يُبَرَّأ قائلها من القتل کما هو مفهوم من الرواية .
ومن هنا بدأ البحث يأخذ منحنى آخر ؛ فبدلا من أن کان الاتجاه نحو استقراء العلل التي جعلت النحاة يفرقون بين نوعي الإضافة ليضعوا لکل واحد منهما أصلا ، ويفهمون من کل نوع منهما دلالة خاصة به ؛ أصبح البحث متوقفا على الفصل بين هاتين الروايتين المتناقضتين تمام التناقض  ، وقد لجأت هنا إلى المنهج العلمي في التفکير والبحث العلمي، فشرعت في افتراض الافتراضات ، واختبار دقتها ، والبحث عن الذي سيثبت منها والذي ينتفي ، وقد تشکلت الافتراضات العلمية إزاء تلک الروايتين المتناقضتين إلى ثلاثة ؛ الأول : أن  تکون إحدى الروايتين مکذوبة على الکسائي ، أو موضوعة عليه .
الثاني : أن تکون الروايتان کلتاهما مکذوبتين عليه ؛ وأن يکون للکسائي رأي آخر في هذا الأمر رواه عنه أحد من تلامذته ، أو ممن خلفه .
الثالث : أن تصح الروايتان عن الکسائي ؛ ويکون الکسائي قد عدل عن رأي منهما ، إلى غيره .
ولکن إذا ثبتت صحة الفرض الثالث فإن التبعة العلمية ستکون أصعب وأشق على الباحث ؛ ذلک أنه لا بد له حينذاک من أن يذکر بالأدلة أي الرأيين عدل عنه الکسائي ؟ وأيهما عدل إليه ؟ .
لقد أجهدت هذه النقطة الباحث ، ولکنه انتهى منها إلى نتائج طيبة اطمأن إليها حين وجد الأدلة التي بين يديه تؤکدها وتثبتها دون تعارض ، وحين انتهى إلى إثبات أن الروايتين صحيحتان عن الکسائي ، وأن هناک رأيا من الرأيين عدل عنه الکسائي إلى غيره ؛ وفرح الباحث بالإضافة التي أضافها في هذا الشأن فرحا لم يدم طويلا .
فسرعان ما تسلل إلى أفکاره فرض آخر أوشک أن يهدم ما جزم به الباحث تمام الهدم ، ويعيده إلى نقطة البدء في هذا الأمر ، وذلک حين تذکر الباحث أنه أهمل تأمُّل النصف الأول من رواية الکسائي مع القاضي أبي يوسف ، موجها کل اهتمامه إلى الجزء الأخير منها وهو دلالة الوصف منونا على الحال أو الاستقبال.
أجل ؛ لقد حال السهو في البداية دون تأمل الرواية مکتملة ؛ وإني لأظن ذلک من حسن الحظ الذي قد يثاب به المرء رغم أنفه .
إن النصف الأول من رواية الکسائي الأخيرة يفضي إلى الحکم بأن العرب کانوا يفهمون من قولنا ( أنا قاتلُ غلامِک ) بالإضافة دلالة المضي ، فليس إلى تخيل الحال أو الاستقبال من سبيل في مثل هذا الترکيب الإضافي ، وهذا واضح من قول هارون " الذي يؤخذ بقتل الغلام هو الذي قال: أنا قاتلُ غلامِک بالإضافة، لأنه فعل ماض "
ولکن ما الإشکال في هذا الفهم الآن ؟ وما الذي يعکر صفو النتائج التي وصل إليها الباحث سابقا وأقرَّها ؟
الإشکال هو أن هذا الفهم يتعارض ظاهره مع قول النحاة في باب الإضافة " إن الإضافة اللفظية ؛ أي التي تکون بإضافة الوصف إلى معموله تکون شبيهة بالفعل المضارع ،وأن معظمهم قد نص نصا صريحا على أن هذا الشبه يتأتَّى من جانبين ؛ الأول : جانب اللفظ ( من حيث الشبه في توالي الحرکات والسکنات بين الوصف والمضارع .

الكلمات الرئيسية