أساليب التلطف النبوي مع الأطفال في الصحيحين دراسة بلاغية تحليلية

نوع المستند : المقالة الأصلية

المؤلف

مدرس البلاغة والنقد في کلية البنات الإسلامية بأسيوط جامعة الأزهر

المستخلص

فإن رعاية المتکلم في کلامه لمقتضى الحال دليل على بلاغته وحسن بيانه، وقد نبه العلماء جميعاً على أهمية رعاية مقتضى الحال عند الخطاب، وجعلوه أهم المقاييس التي تقاس بها بلاغة المتکلم، حيث قرروا أن: " ارتفاع شأن الکلام في باب الحسن والقبول وانحطاطه في ذلک بحسب مصادفة الکلام لما يليق به، وهو الذي نسميه مقتضى الحال"([1]) وکان النبيe من المراعين لمقتضى الحال في جميع کلامه ومحاوراته، ويعد ذلک من أوضح ما تحمله بلاغتهe من صفات تعلو بها عن بيان بقية الناس، وقد تعددت وجوه تلک الرعاية في کلامهe لأحوال المخاطبين حسب الديانة أو الجنس أو العمر أو البيئة أو المنزلة أو السلوک أو غير ذلک، واختلف نظم کلامهe مع کل فريق تبعاً لذلک، ومن أظهر ما يتبين منه إلقاء الکلام على قدر عقول المخاطبين في کلامهe ما جاء من مراعاة التلطف مع الأطفال في الحديث النبوي الشريف، فقد کان خطابهe للأطفال وتعامله معهم مختلفاً عن خطاب غيرهم من أفراد المجتمع وفئاته حينذاک، فجاء خطابهe مراعياً لأحوال الطفل المخاطب ومنزلته وسنه ودرجة قرابته وغير ذلک، وتبع ذلک اختلاف في طريقة النظم، وفي طبيعة الأساليب التي خاطبهم بها، وفي نوع وسائل معالجة أخطائهم، وطرق عتابهم وتربيتهم وغير ذلک، ويمکن القول بأن التلطف کان السمة البارزة في جميع ذلک؛ فإن الطفل بما يتسم به من صفات النعومة والرقة والضعف وعدم اکتمال العقل يحتاج إلى التلطف في کل حال، والطفل في اللغة لفظ مأخوذ من الفعل الثلاثي طَفَلَ، والطَّفْل:هو النبات الرخص، والرَّخْص الناعم والجمع طفال وطفول، والطِّفْل والطِّفْلة: الصغيران، والصبي يدعى طِفلاً حين يسقط من بطن أمه إلى أن يحتلم ([2]) ويطلق هذا اللفظ على المولود الصغير مطلقاً، وتنطبق عليه هذه التسمية منذ أن يخرج من بطن أمه، قال تعالى: (ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجکم طفلاً) الحج5 وتنتهي ببلوغ الحلم کما قال الله تعالى: (وإذا بلغ الأطفال منکم الحلم فليستئذنوا) النور59، وهي مدة تقارب اثني عشر أو أربع عشر عاماً من عمره، ومن صفات الطفل فيها النعومة والرقة والضعف وعدم اکتمال العقل، أما التلطف في الکلام فيعني " الرفق بالجاهل في التعليم، وبالفاسق في النهي عن فعله، وترک الإغلاظ عليه حيث لا يظهر ما هو فيه، والإنکار عليه بلطف القول والفعل، ولا سيما إذااحتيج إلى تألفه ونحو ذلک "([3]) والطفل من أحوج الناس إلى هذا التلطف، وهو يختلف عن المداهنة المنهي عنها، يقول ابن بطال: " المداراة من أخلاق المؤمنين وهى خفض الجناح للناس، ولين الکلمة وترک الإغلاظ لهم فى القول، وذلک من أقوى أسباب الألفة وسل السخيمة ... وفسر العلماء المداهنة فقالوا: هي أن يلقى الفاسق فيؤالفه ويؤاکله ويشاربه، ويرى أفعاله المنکرة ويريه الرضا بها ولا ينکرها عليه ولو بقلبه "([4]) ويلاحظ أن التلطف مع الطفل وغيره ومداراة الناس جميعاً ليس خلقاً إسلامياً فحسب، لکنه يتعدى ذلک ليمثل ظاهرة لغوية اجتماعية تصور قدرة اللغة العربية على العدول من أسلوب لآخر تبعاً لمهارة المتکلم وحذقه ودرجة بلاغته، فهي ظاهرة يمکن أن تظهر في کلام بعض الناس وتختفي عند بعضهم الآخر، وفي التلطف أيضاً بعد ديني؛ لأن ديننا الحنيف يدعونا إلى الرحمة والرفق بالصغير والضعيف، واللغة مظهر لتلک الرحمة، يقول تعالى: (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو کنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولک) آل عمران159 ويقولe: " ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر کبيرنا "([5]) وقد أرشد النبيe إلى وجوب تحسين اللفظ وترک ما استکره منه في جميع المخاطبات، ففي الصحيحين قال رسول اللهe: " لا يقولن أحدکم: خبُثت نفسي، ولکن ليقل: لقِست نفسي "([6]) وخبثت ولقست ألفاظ متقاربة المعنى، لکن رسول اللهe کره لفظ الخبث لبشاعته، وأرشد إلى العدول إلى لفظ أحسن منه وإن کان بمعناه، تعليماً للأدب في المنطق، وإرشاداً إلى الاستعمال الحسن وهجر القبيح من الأقوال، کما أرشدهم إلى ذلک في الأقوال والأفعال.([7]) ومثل ذلک ما جاء عن النبيe أنه دعا إلى اختيار عبارات أکثر تأدباً في خطاب الخادم مراعاة لشعوره، فقد روى أبوهريرة عن النبيe أنه قال: " لا يقل أحدکم: أطعم ربک، وضئ ربک، اسق ربک، وليقل: سيدي مولاي، ولا يقل أحدکم: عبدي أمتي، وليقل: فتاي وفتاتي وغلامي "([8]) 
وقد فطن القدماء من علماء العربية لظاهرة التلطف ودرسوها تحت مباحث الکناية وأنواعها ودوافعها، واستعملوا بعض المصطلحات المتصلة بها مثل: تحسين اللفـظ ، وتلطيف المعنى، والکنايات اللطيفة، والتعريض، وکذلک أشاروا في بعض الأبواب کالتشبيه والأمر والنهي والدعاء والتخيير والإسناد وغير ذلک إلى ما يجب مراعاته من التلطف فيها.
ولما لهذه القضية من أهمية في بيان بلاغة رسول اللهe فقد وقع اختياري لموضوع تلطفهe بالأطفال في الخطاب وغيره لدراسة الجوانب البلاغية المتعلقة به محدداً مجال البحث بأحاديث الصحيحين؛ لأنهما أصح کتب الحديث، ولاشتمالهما على معظم مواقف التلطف النبوي بالأطفال والتي يظهر فيها بجلاء الوسائل اللغوية والأساليب البلاغية التي استعملها النبيe في خطابه لهم وتعامله معهم، وکذلک لرغبتي في عدم توسيع مصادر الدراسة من أجل الإحاطة بالموضوع ودراسة جميع جوانبه، ولم أجد فيما قرأت دراسة اختصت بتناول هذا الموضوع من الناحية البلاغية، لکني وقفت على بعض الدراسات المعاصرة التي نبهت عليه، أو أشارت إليه، أو تناولته من جهات أخرى، ويمکن أن نقسم هذه الدراسات إلى ثلاثة أقسام:
أولاً: دراسات في البلاغة القرآنية، ومنها ( التلطف في لغة القرآن الکريم)([9]) وترکز هذه الدراسة على التلطف القرآني ومواقعه ووظيفته دون تعرض له في غيره من النصوص،  ومنها (التعبير عن المحظور اللغوي والمحسن اللفظي في القرآن الکريم دراسة دلالية)([10]) ويقصد بالمحظور ما يمتنع التعبير عنه لفحش أو استقذار، وبالمحسن ما يسلکه المتکلم من وسائل التلطيف والتأدب في اللغة والأسلوب، وهي دراسة دلالية لکل من المحظور والمحسن اللفظي في لغة القرآن الکريم، وهي غير معنية بسوى ذلک.
ثانياً: دراسات في البلاغة النبوية، ومنها (صور التلطف في الأحاديث النبوية بصحيح البخاري دراسة في ضوء علم اللغة الاجتماعي)([11]) وتنصب هذه الدراسة على بيان التلطف باعتباره إحدى صور التعبير عن المحظور اللغوي والتأدب في الکلام النبوي المروي في صحيح البخاري، وهي ترکز على بيان أبرز السياقات التي يجيء عليها هذا التلطف في ضوء علم اللغة الاجتماعي، ولم تدرس حديثاً واحداً من الأحاديث التي جاءت في هذا البحث، ومنها أيضاً (صور الکناية في الکلام النبوي الشريف)([12]) وهي دراسة حول ما جاء من الکناية عن صفة أو موصوف أو نسبة في کلام النبيe فقط، وهي غير معنية بالحديث عن جانب التلطف في هذه الصور أو دوافعه أو أغراضه، کما أنها لم تتناول أياً من أحاديث التلطف النبوي مع الأطفال، ومنها (السياق المقامي وأهميته في تفسير صيغ المخاطبة في الخطاب النبوي)([13]) وتقوم هذه الدراسة بتجلية عناصر السياق المقامي، وبيان أثره في الخطاب النبوي المکون من المشارکين في الحدث، وموضوع الخطاب، والبيئة، وهدف الخطاب، مع دراسة بعض النماذج التطبيقية على ذلک من ندائهe لأقاربه، وندائه لمعاذ بن جبل، ولم تتجاوز شواهده هذين النموذجين.
ثالثاً: دراسات في التربية، ومنها (أساليب التربية العلاجية لأخطاء الطفل في السنة النبوية
وتطبيقاتها)([14]) و(خطاب النبيe للطفل المسلم وتطبيقاته التربوية)([15]) وهاتان الدراستان مهمتان في بابهما، فهما يتناولان بعض الأحاديث الواردة في هذا البحث من جانبها التربوي، وتطبيقاتها على التربية الحديثة، ولم تتطرقا إلى الجانب البياني إلا نادراً، ومن هذه الدراسات أيضاً (منهج النبيe في تعليم صغار الصحابة)([16]) وقد قسمت هذه الدراسة قسمين: القسم الأول تحدث فيه المؤلف عن منهج الرسولe في التعامل مع الصحابي الصغير وإرشاده وتوجيهه وتعليمه، من حيث تربية الصغير على التسمية على الطعام عند الأکل وحفظ البصر والاستئذان وتوجيهه نحو إتقان العمل وتوديعه عند السفر وممازحته وعيادته عند المرض، أما القسم الثاني فقد استعرض المؤلف فيه أبرز أهداف تربية الطفل وأساليبها: کالأهداف العقلية والروحية والجسمية والاجتماعية والبيئية والأخلاقية، وأساليب القدوة والتربية بالقصة والحوار والتربية بضرب المثل وغير ذلک، ومثلها دراسة (الهدي النبوي في تربية الأولاد في ضوء الکتاب والسنة)([17]) وهذه الدراسة والتي سبقتها تدرسان بعض أحاديث البحث من الجانب الديني والتربوي دون تعرض للجانب البياني؛ لأنه لا يتعلق بالغرض من کتابيهما.
ولذلک صرفت همتي نحو دراسة هذا الموضوع الذي جاء تحت عنوان: " أساليب التلطف النبوي مع الأطفال في الصحيحين دراسة بلاغية تحليلية "
واقتضت طبيعة البحث أن يأتي في مقدمة وتمهيد وثلاثة مباحث تليها الخاتمة والفهارس، أما المقدمة فتدور حول أهمية الموضوع وما سبقه من دراسات وخطته ومنهج دراسته.
وأما التمهيد فقد تناول ثلاثة مسائل:
أولاً: مفهوم التلطف ودواعيه وأغراضه.
ثانياً: التلطف وصوره في التراث اللغوي والبلاغي.
ثالثاً: خصائص نظم التلطف النبوي مع الأطفال في الصحيحين.
أما المباحث فقد دارت حول المحاور التالية:
المبحث الأول: التلطف مع الطفل في الأساليب الإنشائية .
المبحث الثاني: التلطف مع الطفل في أساليب التصوير البياني.
المبحث الثالث: التلطف مع الطفل في أساليب الاستفتاح.
وقد انتهجت في دراسة هذا الموضوع منهج التحليل البياني المعتمد على الانطلاق من الأسلوب الذي ورد فيه التلطف، وبيان مواضعه في الصحيحين وأسراره المتنوعة في السياقات المختلفة، مع ضم کل نظير إلى نظيره، وبيان الفروق والاختلافات فيما بين هذه النظائر إن وجدت، مسترشداً في ذلک کله بما ورد في سيرة النبيe ، وما ذکره أهل العلم عن هذه الأساليب، وإشارات البلاغيين والشرّاح حول هذه الأحاديث.   
والله أسأل أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الکريم، محققاً للغرض المقصود، کاشفاً عن جانب مضيء من جوانب البلاغة النبوية، إنه ولي ذلک والقادر عليه.
 


 

الكلمات الرئيسية