جماليات الطباق في شعر عنترة

نوع المستند : المقالة الأصلية

المؤلف

أستاذ البلاغة والنقد المساعد بکلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات بالإسکندرية

المستخلص

تمهيد
يحفل الشعر العربي القديم والمعاصر بظاهرة أسلوبية تنشأ عن ضرورة نفسية وجمالية ، ذات قدرة على التأثير في نفس المتلقي وهي : " بنية التضاد " التي تقترب من مفهوم " التناقض والمقابلة والطباق ، وبعض أنواع الاستعارة القائمة على التضاد" في البلاغة العربية.
ومعظم هذه الأبنية التي تضمها بنية التضاد تتردد في البحوث النقدية الحديثة، کما ترددت من قبل في النقد اليوناني ، حيث تحدث أرسطو في کتابه الخطابة عن (التضاد ) ، وقرر أن الحجة تؤخذ بواسطة الأضداد بين الأشياء([1])، ويعلل أرسطو لقيمة ( التضاد ) بأن الطبيعة مشتملة عليه، ولذلک فهي – کما يرى – تحب الأضداد، ويحدث التناغم فيها بين المتشابهات، بل بين المتضادات([2]). وکما يقال" وبضدها تتميز الأشياء.
ويشهد تراثنا النقدي والبلاغي ، أن النقاد والبلاغيين العرب قد درسوا هذه الظاهرة في نصوص الإبداع الشعري ، ومع أن أساليب تناولهم لها قد تعددت وتنوعت ، غير أنها تنطلق من معنى واحد وهو : " التضاد التعبيري " ؛ إذ رأى أبو هلال العسکري أن الناس قد اتفقوا على أن معنى " المطابقة " هو : " الجمع بين الشيء وضده في جزء من أجزاء الرسالة أو الخطبة ، أو بيت من بيوت القصيدة مثل : الجمع بين السواد والبياض ، والليل والنهار ، والحر والبرد ، وأشار إلى ورودها في القرآن الکريم ، والحديث النبوي ، وألمح إلى ورودها في بعض الشعر العربي ، في مختلف عصوره([3]).
ولم يبتعد نقاد العرب کثيرًا عن تعريف أبي هلال ؛ فقد وافقه ابن رشيق في أن المطابقة هي جمعک بين الضدين في الکلام ، أو في بيت الشعر مصدرًا کلامه بقوله :" المطابقة في الکلام أن يأتلف في معناه ما يضاد في فحواه"([4]).
کما ذکره ابن الأثير ، و ابن منقذ ، ويسمي التضاد بـ ( التطبيق ) وهو : أن تکون الکلمة ضد الأخرى([5]).
أما ابن أبي الأصبع فيصف التضاد بأنه :" حسن المقابلات " ، وهذا الوصف يعطي لهذه الظاهرة أهمية حيوية تتحدد في أن المقابلة بين الأفکار والصور وسيلة من وسائل التضاد، أو بالأحرى ضرورة فنية وبنية فکرية يلجأ لاستخدامها کل من له صلة بوسائل التعبير الفني ، والتذوق الأدبي .
وللتضاد عند حازم القرطاجني ارتباط بالمتلقي باعتباره أحد صيغ الأسلوب التعبيرية([6]).بينما يعد الرماني أول من تنبه إلى السر الجمالي للتضاد ؛ وهو الأثر النفسي الذي يبدو من صورة الانتقال بين المعنى وضده ، وانفعال الوجدان بذلک([7]).
والتضاد في اللغة – في کثير من الأحيان – يقترن بالخلاف ، فقيل: ضد الشيء : خلافه ، فالسواد ضد البياض ، والموت ضد الحياة ، والليل ضد النهار إذا جاء هذا ذهب ذاک ، ويقال أيضًا ضاده : خالفه ، فهما متضادان([8]).
هناک فرق کبير بين ما هو مألوف في استعمال اللغة وما هو غير مألوف أثناء قراءة العمل الشعري ، ويدرک الشاعر القيمة الکامنة داخل اللفظة الواحدة ، فيبرزها مثيرًا بذلک وعي المتلقي وإدراکه ، وتحصل الصدمة الأولى للمتلقي في وعيه ومعرفته ، فيسعى باحثًا عن أسرار معانيها .
من أجل ذلک أعلى ( ريفاتير ) من قيمة المفاجأة والخروج على المألوف حينما عرّف الأسلوب بأنه :" سياق يکسره عنصر غير متوقع"([9]). وهو لب البلاغة وغايتها.
وهذا القول يشبه ما أورده ( کوهين ) عندما جعل القصيدة الشعرية تعبيرًا غير عادي عن عالم عادي([10])، وهذا التعبير غير العادي ما هو إلا عدول عن معيارية اللغة لتصل إلى أعلى درجات الإثارة ثم التأثير .
وهکذا نصل إلى الأهمية الکبرى لأسلوب التضاد في خرق  المألوف والخروج عليه ، مما يثري المعنى ويوسعه ، عندما يُحدِث مخالفة تغدو ذات تأثير فعال يتلقفه المتلقي عبر کسر السياق والخروج عليه .
ويکمن سر أسلوب التضاد في تهيئة مفاجأة أو خرق عادة بتصوير حرکة معينة في الانتقال من نقطة إلى أخرى تضادها ، وتوضح التوتر بينها .
والتضاد الذي يقوم على علاقة الکلمة ضمن النص عنصر من عناصر الشعرية التي تجمع بين المبدع – حين يفرغ مشاعره في اللفظة المختارة التي حملت هذه المشاعر وخرجت عن مألوفها – والمتلقي المهموم بمکنونات الکلمة الباحث عن جمالياتها- لکن لغة التضاد هذه ممثلة لأحد منابع الفجوة – مسافة التوتر – الرئيسة([11]).
ولا تبرز قيمة التضاد الجمالية إلا إذا أدخل في بنية النص ؛ ليُنشئ قيمته الفنية ، وسره البلاغي المتمثل في قدرته على استنطاق الشعور ، عن طريق الإبانة الخاطفة عن وجهي الحياة أو الأشياء ، و في هذه الإبانة تتآزر مختلف وسائل الترکيب اللغوي([12])
ولبنية التضاد أهمية کبرى في فهم النصوص ، وسبر أغوارها ؛ لقدرتها على تمثيل وتجسيد الأفکار ، وتزداد هذه الأهمية إذا رُشح التضاد بالتشبيه([13])، والاستعارة ، والمجاز.
ويُعد بذلک التضاد جزءًا من الصورة ؛ يسهم في رسمها بشکل مثير قادر على توليد طاقة أکبر من الشعرية ، ولذلک فإن مولد الشعرية في الصورة ، وفي اللغة هو التضاد لا المشابهة([14])
ولقد اهتم عنترة في شعره بتصوير حالته والظلم الواقع عليه ، من خلال التأکيد على حريته ، والرغبة الجامحة في التخلص من رق العبودية ، فاعتمد على إبراز هذا المعنى بإيجاد جو من الدهشة والمتعة ، وذلک باعتماده عنصر المفاجأة ، محققًا بذلک الإثارة عن طريق أسلوب التضاد ،الذي يشکل عنصرًا من عناصر الأداء الشعري لديه، والذي کشف ذلک التوتر النفسي الذي عاشه الشاعر، حينما أحس عدم الاستقرار والاطمئنان من خلال نظرة القبيلة إليه باعتباره عبدًا أسود ، فحمّل بنية التضاد هذه أشکالاً من الآلام النفسية التي انتابته .
وتدلنا النصوص الشعرية - التي وقع عليها الاختيار - والحافلة بهذه الظاهرة ، أن الشاعر کان على وعي بطبيعة هذه الظاهرة ، ووظيفتها الفنية ، وأسرارها البلاغية ودلالاتها النفسية ، مما جعله يوظفها توظيفًا يبرز قيمتها سواء جاءت بارزة في القصيدة أو ضمنية تفهم من السياق أو من الأبيات المشتملة عليها .
وينبئ حرص عنترة على استغلال هذا الفن البلاغي في شعره وإجادته في إبرازه لها عن هدف بلاغي أيضًا يسعى إليه کل شاعر ؛ وهو التأثير في المتلقي من حيث إثارة إقباله الفضولي عليه ؛ "لأنه بحکم طبيعته المجبولة على الطموح المعرفي ، يحب الوقوف على التحولات العجيبة بين النقائض سواء کان ذلک في جماد الطبيعة ، أو حيِّها ، أو المعقولات ، أو الأخلاق من رذائل وفضائل"([15]).
وقد شکل التضاد في شعر عنترة بمختلف ألوانه - على مستوى الکلمة والجملة والبيت والقصيدة والصورة  بوجه عام – بنية متکاملة تحمل همّ الشاعر وآلامه بل وآماله ، حتى لکأنها انعکاسًا لما خفي من مشاعره وأحاسيسه؛ مما يتطلب تداخل مستويات التضاد ؛ لبناء نسيج متکامل ، يحمل رؤية خاصة لعنترة ، ولهذا فقد يجد القارئ جميع أشکال التضاد في القصيدة الواحدة تتضافر وتتآزر لحمل رؤية الشاعر وتشکيلها.
ونظرًا لتداخل هذه المستويات ارتأيت دراسة التضاد في شعر عنترة على مستويات خمسة :
المستوى الأول : التضاد اللغوي (التقليدي ) المباشر .
المستوى الثاني : التضاد الترکيبي .
المستوى الثالث : التضاد الامتزاجي.
المستوى الرابع : التضاد الموقفي .
المستوى الخامس : التضاد الأسلوبي ( السياقي ) .
و الغرض من هذه الدراسة هو الکشف عن فاعلية التضاد ودوره في توهج الکلمة وإضفاء الرونق على النص الشعري بوجه عام وعلى شعر عنترة بوجه خاص .
 

الكلمات الرئيسية