المَنْزِع البلاغى لديوان القوس العذراء للأستاذ : محمود محمد شاکر من زائية الشماخ بن ضرار (  )

نوع المستند : المقالة الأصلية

المؤلف

مدرس البلاغة والنقد فى کلية اللغة العربية بالقاهرة

المستخلص

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لانبى بعده، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لاشريک له، وأن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وحبيبه. بعثه على فترة من الرسل، ففتح به أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا، وجعل معجزته الکبرى بيانا خالداً معجزاً للخلق جميعهم، إنسهم وجنهم، حاضرهم وغائبهم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وکان من حکمة الله تعالى أن جعل معجزة سيدنا محمد r من جنس ما مهر فيه قومه ، ألا وهو البيان ، وکان مما جعل البيان متقداً فى ذلک العهد احتفال هذه الأمة المبعوث فيهم هذا النبى الأمى بالشعر خاصة، وبالبيان عامة ، فلقد کان الشعر فيهم بمنزلة الدستور الذى يدينون به، ولا يحيدون عنه، تجد بيتا من الشعر يرفع أقواما ، ويجعلهم فى عنان السماء، بعد أن کانوا من عامة الناس، وبيتا آخر يضع أقواما ويجعلهم فى أسفل السافلين، بعد أن کانوا ملء العين والسمع،وما هذا إلا لشدة تأثرهم بالکلمة، وشدة وقع الکلمة عليهم، وشدة إحساسهم بها. ومن ثم جاءت أهمية الشعر الجاهلى، الذى بممارسته، ومدارسته، والعکوف عليه، وتذوقه، والوصول إلى أسراره ومراميه تتربى لدى الإنسان السليقة البيانية المستبينة ، التى تستطيع أن تدرک إدراکا ظاهراً أو خفياً ، وتفرق بين بيان البشر مهما عَلِىَ وارتقى وبين بيان رب البشر . وهذا شئ قد أدرکه أعداء الأمة من قديم ، فکانوا من وقت إلى آخر يشيعون بين عامة الناس مايصرفهم عن الشعر ، إلى أن جاء زماننا هذا، وکادوا کيدهم، واحتالوا حيلتهم، وألفوا تلک القضية الساقطة ، وهى قضية انتحال الشعر الجاهلى، وما تلاها من قضايا واهية من أمثال تفکک القصيدة، وانعدام الوحدة، وغثاء بعد ذلک کثير. وهذ أمر يدعونا إلى أن نقدر الشعر عامة والجاهلى منه خاصة، وأن نضعه فى مکانه اللائق به من معجزة القرآن الکريم، فليس الشعر الجاهلى بتلک السطحية، والسذاجة، التى يتعامل بها معه، وإنما الشعر الجاهلى کان علم قوم لم يکن لهم علم أصح منه .      
- الشعر علم، يجب أن يحتفل دارسه به احتفال المقبل على العلم، المتهيئ له، المستعد له، القائم به. ومن ثم فقد دُهِشت قديما منذ أکثر من ربع قرن، عندما قرأت مقالات أديب العربية الأکبر، العلامة المرحوم ، الأستاذ محمود محمد شاکر، نمط صعب ونمط مخيف، فى مجلة المجلة، قبل أن تطبع فى کتاب مستقل بأعوام کثيرة ، ورأيت کيف يتعامل الرجل مع نص جاهلى ، وکيف أقام عليه دراسة فى تحقيق النص ، وکيف ربط بين نغم القصيدة وبين علم العروض ، وکيف استخرج وأرانا ما نجهله من خبايا النص ، وأزمنة الشعر ، التى من لايعرفها ، ولا يفهمها يقول فى معانى القصيدة ووحدتها بقول من لا يعلمون . وکيف کان يمس النص فيخرج منه الأسرار والخبايا مالم أره إلا عند هذا الرجل . دُهِشت من هذا النوع من التعامل، والبصر بالشعر، والفهم له، والشرح، فسألت مشايخى: مَنْ مِنَ الشراح شرح الشعر الجاهلى بهذه الطريقة؟ فقالوا لى: لا أحد . حينئذ صُبَّت فى قلبى حسرة لا يعلم مداها إلا الله .                 
ومضى على ذلک وقت ثم قرأت وعرفت أن ديوان القوس العذراء للأستاذ محمود شاکر کان تذوقا لثلاثة وعشرين بيتا من زائية الشماخ بن ضرار الغطفانى الشاعر المخضرم، الصحابى، t، کان تذوقا غائصا فى أغوار دلالة ألفاظها، وتراکيبها، ونظمها، بل کان غوصا تحت تيار معانيها الظاهرة، وفى أعماق أحرفها، وفى أنغام جرسها، وفى خفقات نبضها، وفى دفقها السارب المتغلغل تحت أبياتها، فأثار بهذا التذوق دفائن نظمها، ولفظها، واستدرج خباياها المحجبة من مکامنها، وأماط اللثام عن أخفى أسرارها المکتمة، وأغمض سرائرها المغيبة، حت صار کأنه يقرأ قصة طويلة فى کتاب منثور، فإذا بالثلاثة والعشرين بيتا من زائية الشماخ تُضَمَّنُ فى ديوان من تسعين ومائتى بيت، کل مافيها نبيثة مستخرجة من الأبيات، ومن رکاز نظمها وکلماتها بلا استکراه لقصة، أو معنى، أو صورة([1]).
وحينئذ أردت أن أربط بين زائية الشماخ وبين القوس العذراء ، وأن أرى المنازع البلاغية التى أثارت ذائقة الشيخ البلاغية ، حتى أتى بهذا البيان الحافل . وعکفت على قراءة القوس العذراء وقبلها أبيات الشماخ بل شعر الشماخ کله ، وعندها رأيت أن مابين أيدينا من الخصوصيات وأحوال التراکيب والصور البيانية، ماهى إلا مجرد مفاتيح لبلاغة أخرى ،غير بلاغة الأحوال والصورة ، فإذا کانت الخصوصيات البلاغية ترجمة للمعانى الثانوية ، فإنها ذاتها وراءها من المعانى والخبايا والأسرار والصور ما لا يدرکه إلا عين کعين محمود شاکر ، وذائقة  کذائقته !!                                              
عند قول الشماخ فى الصوت السادس :         





16- فوافى بها أهل المواسم ، فانبرى    




\


لها بيع ، يغلى بها السوم ، رائز







استنبط الشيخ شاکر من الفاء فى (( فوافى )) زمنا ممتداً ، متطاولا ، ملأه بما استلهمه من قول الشماخ فى الصوت الثانى :                        





8- فلما اطمأنت فى يديه ، رأى غنى    




\


أحط به ، وازور عمن يحاوز







من الاستعارة المکنية فى قوله: "أطمأنت" ومن التنکير فى "غنى" ومن جملة الصفة: "أحاط به" وشقق خيالا واسعا، وبيانا رائقا، ورسم لوحة فنية تصور افتتان القواس بقوسه، وغرامه بها، وأخذها له مما حوله، يطوف بها البلاد، ويرقى بها النجاد، ويهبط بها الوهاد، يبثها سره ونجواه ، يناجيها وتناجيه ، يعلمها تاريخ آبائه وأجداده وحکمة الزمان إلى آخر ما تجده فى أبيات القوس العذراء فى الصوت السادس من البيت الحادى والسبعين إلى البيت التاسع والثمانين، وهو بيان من أروع بيان فى الشعر العربى والقوس العذراء معا.          
أقول هذا الذى رسمه شاکر لا تجده ظاهراً فى بيان الشماخ ، ومن هنا تأتى قيمة تعريف العلامة السکاکى لعلم المعانى " تتبع خواص تراکيب الکلام فى الإفادة وما يتصل بها إلى آخر التعريف ، البلاغة ليست قوالب ورواسم ، يُصَبُّ فيها کل بيان ، وإنما البلاغة تتبع تراکيب البلغاء من عيون بصيرة کعيون محمود شاکر الذى استثار من الاستعارة فى "اطمأنت" ومن التنکير فى " غنى " ومن جملة الصفة " أحاط به " تلک اللوحة الشعرية النادرة ، الرائعة . وکأن عند علمين للمعانى، علم هو تلک القواعد المستقرأة من کلام العرب ، المدونة فى کتب البلاغة، نقيس عليها، ونهتدى بها ، وندرب النشء عليها  ، وعلم نتصيده تطبيقا فى تراکيب البلغاء ، وهذه هى البلاغة الحية النابضة ، التى نحن فى أمس الحاجة إليها لکى تنهض جناحا مکملا لجناج البلاغية النظرية ، فترتقى البلاغة العربية إلى سُمُوِّ ما يراد منها وهو تحقيق علم إعجاز القرآن الکريم .                                             
ومهما يکن من شئ فقد جاء هذا البحث فى مبحثين ، المبحث الأول : فيه استعراض لسياق قصيدة الشماخ التى جاء فى وسطها أبيات القواس .              
والمبحث الثانى : فيه تلمس مافى أبيات الشماخ مما يمت بصلة إلى أبيات القوس العذراء وربطه بها فى ثمانية أصوات يتلو کل صوت صداه من أبيات القوس. وأنا أستطيع أن أقول إن هذه الدراسة قد هُدِيَتْ بفضل الله سبحانه وتعالى عدة نتائج طيبة. وما هذه الدراسة إلا محاولة للاقتراب من روائع النصوص الجاهلية، تحاول أن تسلک الجادة وليس فى يدها إلا شئ من علم قليل مع حب شديد وإيمان قوى بهذا الشعر الجاهلى .                             
اللهم إنى أبرأ إليک من کل قول أو فعل أو خاطر لا يخلص لوجهک الکريم ، وأسألک علما نافعا ، وقلبا خاشعا ، ونورا ساطعا ، إنک ولى ذلک والقادر عليه ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى اللهم وسلم وبارک على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين .
 
 

الكلمات الرئيسية