اقتصاد الجَهد العضلي في المُعْرب

نوع المستند : المقالة الأصلية

المؤلف

أستاذ أصول اللغة المساعد في کلية اللغة العربية بجرجا

المستخلص

الحمد لله رب العالمين الذي أسبغ علينا نعمهُ ظاهرةً وباطنةً، وعلَّمنا بالقلم ما لم نکن نعلم، وهدانا إلى حب العلم وأهله ، والصلاة والسلام على خير الأنام، وإمام الأئمة الأعلام الذي منحه الله تعالى جوامع الکلم، وجعل کلامه مستودع العبر، وکنز الحکم ، وهو معلم الأُمم ومربي الأجيال صاحب الدين القويم والخلق العظيم محمد رسول الله فصلوات الله تعالى وسلامه عليه وعلى آله الأطهار وصحابته الأخيار وعلى کل من سار على هديهم إلى يوم الدين أجمعين.
وبعد :
فقد جرت عادة الإنسان- إذا قصد إلى غاية - أن يسلک إليها أقصر الطرُق وأسهلها، وأقلها کلفةً؛ لأنَّ فيها توفيرًا لجهده ووقته معًا، هذا إذا کانت الطرق جميعُها موصلةً إلى غرضه، محقِّقة له مراده، فإذا ما وجد أنَّ هذه الطَّريق تمنعه ما يريد أو تخلّ بشيء ممَّا يقصد، فإنَّه يعدل عنها إلى ما يفضي به إلى غرضه.
وإن الجهد الأدنى الذي نسعى جميعاً لاعتماده واکتساب آلياته في تواصلنا مع الآخر، يندرج في الدرس اللساني في باب الاقتصاد اللغوي. فما قلّ ودلّ هو في الحقيقة ما يُبذلُ في نطقه أقل جهدٍ بشري ممکن. إنه نتيجة طبيعية لنزوع المتکلم إلى تکثيف رسالته اللغوية وتضمينها ما "خفّ وزنه وغلا ثمنه" من تعابير ومفردات وأصوات تسهم في اعتقاده في إيصال المضمون إلى المتلقي بيسرٍ وسهولة ودون عوائق تذکر.
والعرب کانوا ومازالوا يؤثرون الاقتصاد الشامل الإيجاز والاختصار ، کما صرح به ابن جني قائلا :" ألم تسمع إلى ما جاءوا به من الأسماء المستفهم بها, والأسماء المشروط بها کيف أغنى الحرف الواحد عن الکلام الکثير المتناهي في الأبعاد والطول فمن ذلک قولک: کم مالک؟ ألا ترى أنه قد أغناک ذلک عن قولک: أعشرة مالک أم عشرون أم ثلاثون أم مائة أم ألف؟ فلو ذهبت تستوعب الأعداد لم تبلغ ذلک أبدًا لأنه غير متناه فلما قلت: " کم " أغنتک هذه اللفظة الواحدة عن تلک الإطالة غير المحاط بآخرها ولا المستدرکة. وکذلک أين بيتک؟ قد أغنتک "أين " عن ذکر الأماکن کلها. وکذلک من عندک؟ قد أغناک هذا عن ذکر الناس کلهم. وکذلک متى تقوم ؟ قد غنيت بذلک عن ذکر الأزمنة على بعدها. وعلى هذا بقية الأسماء من نحو: کيف وأي وأيان وأنى. وکذلک الشرط في قولک: من يقم أقم معه فقد کفاک ذلک من ذکر جميع الناس ولولا هو لاحتجت أن تقول: إن يقم زيد أو عمرو أو جعفر أو قاسم ونحو ذلک, ثم تقف حسيرًا مبهورًا ولما تجد إلى غرضک سبيلًا... فجميع ما مضى وما نحن بسبيله مما أحضرناه, أو نبهنا عليه فترکناه شاهد إيثار القوم لحسن التعبير والتوسط في الحديث ، والإيضاح فيه ، مع قوة إيجازهم وحذف فضول کلامهم ([1]) .
ومن ذلک قول عمر بن عبد العزيز لرجل أحسن في طلب حاجة وتأتى لها بکلام وجيز، ومنطق حسن: هذا والله السحر الحلال ..."([2]) .
وقد قال الشاعر :
عَلَيْکَ بِأَوْسَاطِ  الأُمُورِ فَإِنَّها                     نَجَاةٌ وَلا تَرْکَبْ ذَلُولاً وَلَا صَعْبَا ([3])
وقال الآخر:               
لا تَذهَبَنّ في الأمورِ فَرَطَا                             لا تَسألَنّ إنْ سألْتَ شَطَطَا ([4])
وقال عبد الله بن مسعود في خطبته: «وخير الأمور أوساطها، وما قل وکفى خير مما کثر وألهى ، نفس تنجيها، خير من إمارة لا تحصيها " ([5]) .
وتقول العرب : " القليل الکافي خيرٌ من کثير غير
شاف " ([6])  وتقول العرب أيضا : خير الکلام ما قلّ ودلّ وجل ولم
يمل " ([7]) وهناک تعبير شعبي طريف شائع يستعمله أغلب المصريين في عصرنا الحاضر ، يؤدي نفس الغرض والدلالة وهو "هَاتْ مِنِ الآخِر" .

وإيثار العرب الاقتصاد والإيجاز والاختصار لا يعني أنهم ما کانوا يستعملون ما يخالفه ، بل کانوا يستعملونه عند الحاجة ، لکن کانوا يستکرهونه ، ويميلون إلى الاقتصاد والاختصار أکثر ، کما صرح به ابن جني قائلا :" قيل لأبي عمرو: أکانت العرب تطيل؟ فقال: نعم لتبلغ. قيل: أفکانت توجز؟ قال : نعم ليحفظ عنها .
واعلم أن العرب - مع ما ذکرنا - إلى الإيجاز أميل , وعن الإکثار أبعد . ألا ترى أنها في حال إطالتها وتکريرها مؤذنة باستکراه تلک الحال وملالها, ودالة على أنها إنما تجشمتها لما عناها هناک وأهمها؛ فجعلوا تحمل ما في ذلک على العلم بقوة الکلفة فيه دليلا على إحکام الأمر فيما هم عليه..." ([8]) .
والنحاة القدماء- وإن لم يستعملوا لفظ الاقتصاد- استعملوا ألفاظًا أخرى للدلالة عليه کالتخفيف ، والخفة ، وطلب الخفة ، والحذف...([9]) إلخ ومن ذلک  قولهم : " أرادوا التخفيف " ([10]) ، " أن الحذف ... إنما الغرض به التخفيف" ([11]) " فَمن فتح ، طلب الخفةَ " ([12]) .
ولَمَّا لم يرد النص على مصطلح الاقتصاد في تراثنا النحوي، فإنَّ ذلک يقتضي الوقوف على التطبيقات النحوية المختلفة التي تعکس الاقتصاد، في محاولة لاستکناه ضوابطه وصوره وأنماطه، مع تبيُّن موقعه من المقاصد اللغوية، وتحليله وتوضيحه صوتيا وتفسير ما يبدو مناقضًا لجوانبه، وقد استلزم هذا أن يفرد الاقتصاد بدراسة توضحه وتحدده وتبينه في علم النحو في باب المُعْرَب ([13]) فحسب؛ لأنه قد دُرِس في باب المبنيات ([14]) فجاء هذا البحث وعنوانه : ( اقتصاد الجَهد العضلي في المُعْرَب ) تلبية لهذه الضرورة .
وتکمن أهمية هذا البحث في الکشف عن مدى اهتمام علماء اللغة عامة وعلماء النحو خاصة بظاهرة الاقتصاد في الجهد العضلي ، التي عبروا عنها بتعبيرات کثيرة ، منها : التخفيف ، الخفة ، طلب الخفة ، الحذف ، الإنابة ...إلخ .
کما يکشف لنا هذا البحث عن أثر هذه الظاهرة في مواقع المعربات وعلامات إعرابها ؛ حيث اعتمدوها من أسس التعليل لکثير من مسائل التراکيب النحوية .
 

الكلمات الرئيسية