شروط صحة القراءات وأثرها فى الاستدلال النحوى

نوع المستند : المقالة الأصلية

المؤلف

مدرس اللغويات بکلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات بالمنصورة

المستخلص

الحمد لله وصلى الله وسلم وبارک على حبيبه وصحبه أجمعين ، وعلى التابعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى اليوم ، ثم أما بعد .  .  .
فإن مما يتقرب به المسلم إلى ربه خدمة کتابه بدرسه وتدريسه ، والبحث في غرائب حکمه ، وبديع نظمه ، ومعرفة محکمه ومتشابهه .
والبحث في القراءات القرآنية من الأمور التي يرجو المسلم ثوابها ، وقد کانت وما زالت قبلة الباحثين يوجهونها على تصاريف العربية على أي وجه کانت ، ومع ذلک وجدنا من علمائنا من ينکر القراءة ويتهمها باللحن ، أو يتهم القارئ بها ، فصار لدينا فريقان ، فريق لا يجد حرجاً في رد القراءة على اعتبار أنها ليست قرآنا يتلى ، وإنما هي وجه من وجوه الأداء للقرآن الحکيم ، وهذه الوجوه قد يدخل صاحبها الوهم ، أو يعتريه النسيان ، أو تشتبه عليه الأحکام ، وربما يکون القارئ بها ممن ينطق على لهجته .
ولدينا فريق آخر يسارع إلى تصويب کل قراءة وردت ، ويرد مشکلها إلى متواترها ، ومتشابها إلى محکمها .
وفي العصر الحديث وجدنا من يسارع إلى اتهام النحويين بجرأتهم على نقد القراءات القرآنية ، وعدم التأدب مع القرآن الکريم وقراءته ، ويعقد لذلک صراعاً بين النحويين والقراء([1]) وآخر يدافع عن القرآن ضد النحويين([2]) .
هذا مع أن النحويين من هذا الصراع براء ، وهذا الهجوم محض افتراء ، فهم آخر المشارکين في نقد القراءات ، وهم لم يضعوا لصحة القراءات القرآنية شرطاً ، ولا شروطاً ، حتى الشرط اللصيق بهم شرط صحة العربية لم يضعه النحويون ، وإنما وضع علماء القراءات الشروط ، وأوجبوا على من يتعرض لقراءات القرآن مراعاة هذه الشروط تمييزاً للقراءة الصحيحة من غيرها ، کما يقول الأنباري " والبصريون يذهبون إلى وَهْي هذه القراءة وَوَهْم القارئ ؛ إذ لو کانت صحيحة ، لکان ذلک من أفصح الکلام ، وفي وقوع الإجماع على خلافه دليل على وَهْيِ القراءة"([3]) .
ومن القراء من يجري عليه الوهم باعتراف علماء القراءات أنفسهم ، ومنهم من يختلط ، ومنهم من ينسى .
وهذه الشروط التي وضعها العلماء أصابها بعض الخلاف ، وبقدر هذا الخلاف کان الاختلاف ، فقد وضعوا لصحة القراءة شرط موافقة الرسم العثماني ، واعتبروا ما خالفه شاذاً حتى وإن صح سنده أو تواتر إلينا عن طريق الصدوق العدول، فحکموا على ما خالف رسم المصحف الإمام بالشذوذ ، فماذا يقال حينها فيما قرئ من القراءات من الحروف السبع التي بها نزل القرآن بحضرة الرسول r وصحبه الکرام وهي ليست في مصحف عثمان t ؟
 لذا وجدنا بعض العلماء لم يرتضِ هذا الشرط .
أيضاً شرط علماء القراءات لصحة القراءة شرط التواتر ، وبعضهم خالف ، واکتفى عوضاً عن التواتر بصحة السند ، واتهم من شرط التواتر بجهله بحقيقة التواتر ، وأن بعضه لم يقع في القرآن البتة ، وإنما المعتبر عندهم صحة السند ، وصحة السند تقتضي أن رواية الآحاد الثقة تقبل ، لکنها وحدها لا تکفي ، بل لا بد مع صحة السند من موافقة الرسم العثماني وموافقة العربية ، وهذا الشروط مجتمعة دليل صحة ، والخلل في أحدها يقتضي خطأ القراءة .
أما من شرط التواتر وقال بوقوعه في القرآن فاکتفى به ، وجعل الشرط واحداً وهو التواتر ، أما موافقة الرسم العثماني ، وموافقة العربية ، فليست شروطا ، وإنما هي نتائج ؛ إذ کل ما ثبت تواتره ، لا بد أن يوافق ضرورةً الرسم العثماني ، والعربية بأي وجه کانت ، کما يقول الجعبري : "الشرط واحد ، وهو صحة النقل ، ويلزم الآخران ، فمن أحکم معرفة حال النقلة وأمعن في العربية وأتقن الرسم انحلت له هذه الشبهة "([4]) .
أيضا شرط العلماء لصحة القراءة موافقة العربية ، فأي موافقة أرادوا ؟ هل موافقة أي وجه کان ، قريب أو بعيد ، متفق عليه أو مختلف فيه .
أو لا بد من موافقة وجه من العربية قوي يتلاءم مع جلال القرآن وکماله ؛ لأن القرآن لا يحمل على الشاذ ولا الضعيف ، وکل ما في القرآن وکذا قراءاته هي من الأفصح ، أو من الفصيح ، لذا کان الحمل على اللحن أو الوهم أولى عندهم من الحمل على الوجه الضعيف أو الشاذ .
يقول القرطبي : " " وَقُلْنَا : مَا ثَبَتَ بِالِاسْتِفَاضَةِ أَوْ التَّوَاتُر أَنَّ النَّبِيّ eقَرَأَهُ فَلَا بُدّ  مِنْ جَوَازه ، وَلَا يَجُوز أَنْ يُقَال : إِنَّهُ لَحْن ، وَلَعَلَّ مُرَاد مَنْ صَارَ إِلَى التَّخْطِئَة أَنَّ غَيْره أَفْصَحُ مِنْهُ ، وَإِنْ کَانَ هُوَ فَصِيحًا "([5]) .
فهم إن ردوا القراءة ردوها تنزيهاً ، لا تشهياً من عند أنفسهم ، وهم بذلک يتقربون إلى الله ، لا کما صورهم البعض في حملته للدفاع عن القرآن ضد النحويين ، في الصراع الدائر بين النحويين والقراء .
أي صراع دار ؟ وأي  دفاع کان ؟ والنحويون فقط شارکوا في نقد القراءت ، فقد شارکهم علماء القراءات في ردها ، رد ابن مجاهد صاحب السبعة بعض القراءات لمخالفتها وجه نحوي عنده ، واتهم في بداية تنظيره لکتابه السبعة بأن بعض القراء يجري عليه الوهم والنسيان والخطأ .
وکره بعض الفقهاء قراءات کرهها بعض النحاة ، کره الإمام أحمد بن حنبل قراءة حمزة([6]) ، وکذا کرهها أبو بکر بن عيّاش ، ويزيد بن هارون([7]) . ، فلما کرهها المبرد عقدوا صراعا بين النحويين والقراء ، ودافعوا عن القراء ضد النحويين .
 لم يضع النحويون شروط صحة القراءة ، وإنما طبقوها تطبيقاً أميناً ، إذ کانت هذه الشروط عند النحويين وغيرهم مسباراً يختبرون به صحة القراءة ، ثم إن الخلاف بينهم کان کالخلاف عند غيرهم .
اختلفوا من قبل في شرط صحة التواتر ، فاختلف النحويون مثلهم .
واختلفوا في موافقة العربية على أي طريقة تکون ، فاختلف النحويون مثلهم ، والنحويون لا تعييهم حيلة في تخريج کلام الناس ، وقد قالوا : أنحى الناس من لم يلحن أحدا ، لکن النحويين لا يجترئون على مثل هذا في القرآن الکريم وقراءته ، حاشاه أن يکون مثل کلام الناس ، فالحکم بخطأ القارئ أهون من حمل القرآن أو قراءاته على الشاذ أو الضعيف الذي يجوز في کلام الناس ، لکنه أبداً لا يجوز في کلام الله .
لذا کان هذا البحث في أثر شروط صحة القراءة على الحکم النحوي ، لتجلية الخلاف الواقع في هذه الشروط ، وبيان أثر هذا الخلاف في انقسام العلماء إلى منکر لصحة بعض القراءات ، وبعض آخر يقبل کل ما ورد ويجهد نفسه وعقله في رد ما ظاهره الخطأ إلى الصواب .
وإني لأرجو أن يکون الفريقان ممن أراد الثواب ، فعرض لبعضهم الصواب ، وجانب بعضاً الصواب .
أسأل الله الثواب والصواب ، وأن يقينا سوء العذاب .
هاني محمد عبد الرازق القزاز
مدرس اللغويات بکلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات بالمنصورة
 

الكلمات الرئيسية