الحمد لله وصلى الله وسلم وبارک على حبيبه وصحبه أجمعين ، وعلى التابعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى اليوم ، ثم أما بعد . . . فإن مما يتقرب به المسلم إلى ربه خدمة کتابه بدرسه وتدريسه ، والبحث في غرائب حکمه ، وبديع نظمه ، ومعرفة محکمه ومتشابهه . والبحث في القراءات القرآنية من الأمور التي يرجو المسلم ثوابها ، وقد کانت وما زالت قبلة الباحثين يوجهونها على تصاريف العربية على أي وجه کانت ، ومع ذلک وجدنا من علمائنا من ينکر القراءة ويتهمها باللحن ، أو يتهم القارئ بها ، فصار لدينا فريقان ، فريق لا يجد حرجاً في رد القراءة على اعتبار أنها ليست قرآنا يتلى ، وإنما هي وجه من وجوه الأداء للقرآن الحکيم ، وهذه الوجوه قد يدخل صاحبها الوهم ، أو يعتريه النسيان ، أو تشتبه عليه الأحکام ، وربما يکون القارئ بها ممن ينطق على لهجته . ولدينا فريق آخر يسارع إلى تصويب کل قراءة وردت ، ويرد مشکلها إلى متواترها ، ومتشابها إلى محکمها . وفي العصر الحديث وجدنا من يسارع إلى اتهام النحويين بجرأتهم على نقد القراءات القرآنية ، وعدم التأدب مع القرآن الکريم وقراءته ، ويعقد لذلک صراعاً بين النحويين والقراء([1]) وآخر يدافع عن القرآن ضد النحويين([2]) . هذا مع أن النحويين من هذا الصراع براء ، وهذا الهجوم محض افتراء ، فهم آخر المشارکين في نقد القراءات ، وهم لم يضعوا لصحة القراءات القرآنية شرطاً ، ولا شروطاً ، حتى الشرط اللصيق بهم شرط صحة العربية لم يضعه النحويون ، وإنما وضع علماء القراءات الشروط ، وأوجبوا على من يتعرض لقراءات القرآن مراعاة هذه الشروط تمييزاً للقراءة الصحيحة من غيرها ، کما يقول الأنباري " والبصريون يذهبون إلى وَهْي هذه القراءة وَوَهْم القارئ ؛ إذ لو کانت صحيحة ، لکان ذلک من أفصح الکلام ، وفي وقوع الإجماع على خلافه دليل على وَهْيِ القراءة"([3]) . ومن القراء من يجري عليه الوهم باعتراف علماء القراءات أنفسهم ، ومنهم من يختلط ، ومنهم من ينسى . وهذه الشروط التي وضعها العلماء أصابها بعض الخلاف ، وبقدر هذا الخلاف کان الاختلاف ، فقد وضعوا لصحة القراءة شرط موافقة الرسم العثماني ، واعتبروا ما خالفه شاذاً حتى وإن صح سنده أو تواتر إلينا عن طريق الصدوق العدول، فحکموا على ما خالف رسم المصحف الإمام بالشذوذ ، فماذا يقال حينها فيما قرئ من القراءات من الحروف السبع التي بها نزل القرآن بحضرة الرسول r وصحبه الکرام وهي ليست في مصحف عثمان t ؟ لذا وجدنا بعض العلماء لم يرتضِ هذا الشرط . أيضاً شرط علماء القراءات لصحة القراءة شرط التواتر ، وبعضهم خالف ، واکتفى عوضاً عن التواتر بصحة السند ، واتهم من شرط التواتر بجهله بحقيقة التواتر ، وأن بعضه لم يقع في القرآن البتة ، وإنما المعتبر عندهم صحة السند ، وصحة السند تقتضي أن رواية الآحاد الثقة تقبل ، لکنها وحدها لا تکفي ، بل لا بد مع صحة السند من موافقة الرسم العثماني وموافقة العربية ، وهذا الشروط مجتمعة دليل صحة ، والخلل في أحدها يقتضي خطأ القراءة . أما من شرط التواتر وقال بوقوعه في القرآن فاکتفى به ، وجعل الشرط واحداً وهو التواتر ، أما موافقة الرسم العثماني ، وموافقة العربية ، فليست شروطا ، وإنما هي نتائج ؛ إذ کل ما ثبت تواتره ، لا بد أن يوافق ضرورةً الرسم العثماني ، والعربية بأي وجه کانت ، کما يقول الجعبري : "الشرط واحد ، وهو صحة النقل ، ويلزم الآخران ، فمن أحکم معرفة حال النقلة وأمعن في العربية وأتقن الرسم انحلت له هذه الشبهة "([4]) . أيضا شرط العلماء لصحة القراءة موافقة العربية ، فأي موافقة أرادوا ؟ هل موافقة أي وجه کان ، قريب أو بعيد ، متفق عليه أو مختلف فيه . أو لا بد من موافقة وجه من العربية قوي يتلاءم مع جلال القرآن وکماله ؛ لأن القرآن لا يحمل على الشاذ ولا الضعيف ، وکل ما في القرآن وکذا قراءاته هي من الأفصح ، أو من الفصيح ، لذا کان الحمل على اللحن أو الوهم أولى عندهم من الحمل على الوجه الضعيف أو الشاذ . يقول القرطبي : " " وَقُلْنَا : مَا ثَبَتَ بِالِاسْتِفَاضَةِ أَوْ التَّوَاتُر أَنَّ النَّبِيّ eقَرَأَهُ فَلَا بُدّ مِنْ جَوَازه ، وَلَا يَجُوز أَنْ يُقَال : إِنَّهُ لَحْن ، وَلَعَلَّ مُرَاد مَنْ صَارَ إِلَى التَّخْطِئَة أَنَّ غَيْره أَفْصَحُ مِنْهُ ، وَإِنْ کَانَ هُوَ فَصِيحًا "([5]) . فهم إن ردوا القراءة ردوها تنزيهاً ، لا تشهياً من عند أنفسهم ، وهم بذلک يتقربون إلى الله ، لا کما صورهم البعض في حملته للدفاع عن القرآن ضد النحويين ، في الصراع الدائر بين النحويين والقراء . أي صراع دار ؟ وأي دفاع کان ؟ والنحويون فقط شارکوا في نقد القراءت ، فقد شارکهم علماء القراءات في ردها ، رد ابن مجاهد صاحب السبعة بعض القراءات لمخالفتها وجه نحوي عنده ، واتهم في بداية تنظيره لکتابه السبعة بأن بعض القراء يجري عليه الوهم والنسيان والخطأ . وکره بعض الفقهاء قراءات کرهها بعض النحاة ، کره الإمام أحمد بن حنبل قراءة حمزة([6]) ، وکذا کرهها أبو بکر بن عيّاش ، ويزيد بن هارون([7]) . ، فلما کرهها المبرد عقدوا صراعا بين النحويين والقراء ، ودافعوا عن القراء ضد النحويين . لم يضع النحويون شروط صحة القراءة ، وإنما طبقوها تطبيقاً أميناً ، إذ کانت هذه الشروط عند النحويين وغيرهم مسباراً يختبرون به صحة القراءة ، ثم إن الخلاف بينهم کان کالخلاف عند غيرهم . اختلفوا من قبل في شرط صحة التواتر ، فاختلف النحويون مثلهم . واختلفوا في موافقة العربية على أي طريقة تکون ، فاختلف النحويون مثلهم ، والنحويون لا تعييهم حيلة في تخريج کلام الناس ، وقد قالوا : أنحى الناس من لم يلحن أحدا ، لکن النحويين لا يجترئون على مثل هذا في القرآن الکريم وقراءته ، حاشاه أن يکون مثل کلام الناس ، فالحکم بخطأ القارئ أهون من حمل القرآن أو قراءاته على الشاذ أو الضعيف الذي يجوز في کلام الناس ، لکنه أبداً لا يجوز في کلام الله . لذا کان هذا البحث في أثر شروط صحة القراءة على الحکم النحوي ، لتجلية الخلاف الواقع في هذه الشروط ، وبيان أثر هذا الخلاف في انقسام العلماء إلى منکر لصحة بعض القراءات ، وبعض آخر يقبل کل ما ورد ويجهد نفسه وعقله في رد ما ظاهره الخطأ إلى الصواب . وإني لأرجو أن يکون الفريقان ممن أراد الثواب ، فعرض لبعضهم الصواب ، وجانب بعضاً الصواب . أسأل الله الثواب والصواب ، وأن يقينا سوء العذاب . هاني محمد عبد الرازق القزاز مدرس اللغويات بکلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات بالمنصورة
محمد عبد الرازق القزاز, هاني. (2012). شروط صحة القراءات وأثرها فى الاستدلال النحوى. حولية کلية اللغة العربية بجرجا, 16(3), 1757-1833. doi: 10.21608/bfag.2012.24553
MLA
هاني محمد عبد الرازق القزاز. "شروط صحة القراءات وأثرها فى الاستدلال النحوى". حولية کلية اللغة العربية بجرجا, 16, 3, 2012, 1757-1833. doi: 10.21608/bfag.2012.24553
HARVARD
محمد عبد الرازق القزاز, هاني. (2012). 'شروط صحة القراءات وأثرها فى الاستدلال النحوى', حولية کلية اللغة العربية بجرجا, 16(3), pp. 1757-1833. doi: 10.21608/bfag.2012.24553
VANCOUVER
محمد عبد الرازق القزاز, هاني. شروط صحة القراءات وأثرها فى الاستدلال النحوى. حولية کلية اللغة العربية بجرجا, 2012; 16(3): 1757-1833. doi: 10.21608/bfag.2012.24553