الشاهد النحوي بين الرواية و التوجيه دراسة دلالية نقدية

نوع المستند : المقالة الأصلية

المؤلف

أستاذ اللغويات المساعد في کلية اللغة العربية بالزقازيق

المستخلص

أحمد الله وحده ،وأصلي وأسلم على من لا نبي بعده ..... وبعد .
فهذا بحث موضوعه ( الشاهد النحوي بين الرواية والتوجيه )عرضت فيه نماذج من شواهد النحاة – قرآنا أو حديثا أو شعرا أو مأثور کلام.
وقد اهتم النحاة عند جمع اللغة ، ووضع القواعدبالشعر أکثر من غيره – ولذا کثرت شواهدهم فيه ؛لأنه – کما قال ابن رشيق – أکبر علوم العرب، وأوفر حظوظ الأدب ،وأحرى أن تقبل شهادته ،و تمثل إرادته ،فله أعظم المزية ،وشرف الأبية ،وعز الأنفة ،و سلطان القدرة([1]) .
وکلامنا فى مقام هذا البحث عن (الشاهد النحوي من حيث روايته- وإن اختلفت، وتوجيه قياسه- وإن تنوع- عند النحاة )بدأته بالحديث عن الشاهد القرآني – في إيجاز-وکذلک القراءات ، ثم الحديث عن الشاهد الشعري ،عرضت لذلک فى نماذج من شواهدهم.
سبب اختيارموضوع البحث :-
و کان الدافع لاختيارموضوع البحث والکتابة فيه راجعا لما يأتي :-
أولا:-  لأن النحو قانون العربية ومقياسها ،بذل القدماء فى وضعه جهودا ، فجمعوا أصوله ،وقننوا قواعده ،معتمدين فى إقامتها على عنصر الشاهد بوصفه الرکن الرئيس فى التوثيق والاحتجاج([2])، واضعين معايير تکفل له النقاء ،کما تحفظ لقاعدة العربية وقانونها الضبط والاتساق([3]).
فهذا ما کان عليه أصل الوضع وهدف التقعيد ،غير أننا إذا تصفحنا ما خلفه المتقدمون فى کتبهم من شواهدهم التى جاءوا بها دليلا على ما هدفوا له ، وجدنا بعضها – إن لم يکن أغلبها – بين أوجه لا تتفق وقاعدتهم – أو قانون قياسهم.
الأمر الذى اضطرهم – أي النحاة – لوضع مسوغات تخرجها – فى نظرهم – من ذلک القانون العام ،فقالوا مرة بشذوذها أو ندرة مثالها ،وأخرى باختلاف روايتها ،وثالثة بالجهل بقائليها ،ورابعة بمخالفة الشاعر ما نصوا عليه وقعدوا له – فحملوا قوله على الغلط والتوهم – کأن الشاعر يقول ما يريدون ،لا أن يقعدوا على ما جاءت عليه روايته ولغته.
وهذا – إن دل فلا على شئ سوى خلط وعدم دقة.
ثانيا :- أن الشاهد قد نال حظه في نحو العربية([4])،فجاءت القواعد ناطقة به حجة على صحتها ،وتقريرها ،ذاهبة بما خالفها فى طرق غير معبدة لا تتفق وروايته.
     الأمر الذى يعکس على الشاهد آثار الصبغة الذهنية التى تخضع النصوص لسطوة القاعدة المسيطرة على النحو وکذلک النحاة  ،فاصبح منهجهم معيار الصواب والخطأ ،فما توافق معهم أخذوا به ،وما اختلف أولوه على وجوه مرضية عندهم – فرضا للقياس على المثال – والمنهج العلمي لا ينکر وجود ما هو خارج عن القاعدة شريطة تفسيره على الوجه المقبول – وذلک لإهمالهم الظاهرة اللغوية ،فلم يربطوا القاعدة بها([5]).
ثالثا:- ظل الشاهد هو المعيار الذي اعتمد عليه النحاة فى تقعيد القواعد ؛إذ هو دليل الحکم وسند القاعدة التى ارتکزوا عليها ،فکان أقومــه عندهم ما کان أقوى حجة وأصح بيانا وأرسخ دليلا ،وعلى هذا الأساس تباينت الشواهد – قوة وضعفا – لما انطوت عليه من قوة التدليل .
رابعا:- ولأن الشاهد لسان النحوي – فى إثبات صحة القاعدة وتقريرها،أو تجويز ما جاء مخالفا القياس أو الرد على المخالف – اشترط فيه وضوح الدلالة – وليس للشاهد رواية تخالفه – وإلا کان غير مقبول – فإذا دخله الاحتمال سقط به الاستدلال – لذا؛کان الالتفات إلى هذا الجانب من حيث هو معيار قامت عليه حقائق النحو ومقرراته عند النحويين متقدميهم ومتأخريهم.
خامسا :- ولأن دقة الرواية والنقل أساسان فى حجية الاستشهاد ،فما رأيناه فى کتب النحاة من خلاف نتج عن تحريف أو تلفيق أو تعدد فى الروايات ،کل ذلک لا يمکن تجاهله فى طريق معرفة الحقيقة – وهذا يحتاج إلى الدرس والتحري لمعرفة مدى التأثير الذى تترکه تلک الأمور مجتمعة على الدرس النحوي ،وقد کثر التصحيف والتحريف فى کتب وأقوال اللغويين والنحويين على حد سواء ،حتى أن النحوي قد يضطر إلى تحريف أبيات شواهده مدفوعا إلى ذلک بما يدور من صراع بين أرباب مدرستي النحو – البصرة والکوفة – ناظرا حظوة عند خليفة ،أو ساعيا إلى شهرة قد يکون بعدها مؤدبا أولاده([6]).
سادسا :- جاء الشاهد النحوي- الشعري-  مرتبطا بإشکالات لعلها کانت سبب درسه ،واختلاف الدراسات حوله ،ومن تلک الإشکالات : وروده منسوبا لقائله أو لقبيلة معنية أو راو ثقة. غير أن النحاة لم يضعوا ذلک في مظنة الاحتجاج([7])- أو يأتي به النحاة غير منسوب([8])،ولم تکن هناک إشارة دالة على مصدره ،أو يکون برواية أخرى([9])أو يکون الراوي وصـاحب البيت ثقة ، فيحمله النحاة على الغلط([10])،وجميع کتب النحو لم تسلم من ذلک  مما آثار جدلا کبيرا حول صحة وتوثيق شواهدهم.
- و لذا ؛جاءت الدراسة حاوية محورين . أحدهما نحوي يتمثل فيما جاء عند النحويين من شواهد .والآخر دلالي يؤدي إلى نظرة نقدية لما دارت عليه تلک الشواهد.
      هذا ،وقد درج النحاة على نسبة لفظ الشاهد بالشعر- وإن اختلفت شواهدهم بينه وبين النظم، فدرجت على مادرجوا عليه فى تسميتهم إياه.
     هذا عن الجانب الأول –وهو الشاهد – أما الجانب الثاني الذي بنى عليه عنوان البحث فهو الرواية – وإن اختلفوا فيها ،والمقصود باختلافهم في الرواية: ( عدم اتفاقهم على موضع الشاهد فى قول من يحتج بکلامه ) فقد تختلف رواية البيت ويختلف موضع الشاهد فيها – وإن جاز الجمع بين الروايتين من جهة المعنى ؛ إذ إنه لا يختلف باختلاف موضع الاستشهاد – وقد تتعارض روايتا البيت أو رواياته على وجه لا يمکن الجمع بينهما أو بينها.. وهذا غالب فى الشواهد المختلف فيها – وقد أدرک النحويون واللغويون ذلک ، فأخذوا بأرجح الروايات عند التعارض([11]).
-   إن اختلاف الروايات في شواهد التراث النحوي الشعرية أمر واقع بسبب ما يجدًّ للراوي من تغير في الزمان والمکان وطول العهد بما يرويه أو اختلاف سماع عما حفظ ،وقد اتخذ النحاة في سبيل الخلاص من ذلک مسلکا واضحا هو التوفيق – کما ذکرنا – بين الروايات أو ترجيح ما هو أوثق فى نظرهم.
-    ولنا أن نقول : إن اختلاف الرواية أو تعارضها مع غيرها ليس محل نزاع لغوي بقدر ما هو محل خلاف نحوي ،فکثيرا ما (تروى الأبيات على أوجه مختلفة ،وربما يکون الشاهد فى بعض دون بعض ،وقد وقع ذلک فى کتب النحاة جميعهم منذ سيبويه – کما ذکر ابن السيرافي (واعلم أن اختلاف الإنشاد إذا وقع فى مثل ذا الموقع لا ينبغى أن ينسبه أحد إلى اضطراب سيبويه ،وإنما الرواية تختلف فى الإنشاد ،ويسمعه سيبويه ينشد على بعض الروايات التى فيها حجة ،فينشده على ما سمعه  ،ويرويه راو آخر على وجه آخر لا حجة فيه ...)([12]).
هذا ؛ولم يعد النحاة ما اختلفت روايته مدخلا للطعن في صحة الرواية (والرواة المختلفون إنما أخذوه من أفواه العرب الذين يحفظون الأشعار لأن العربي الذى غير الشعر ،وأنشده على وجه دون وجه قوله حجة ،ولو کان الشعر له لکان يحتج به)([13]).
نقول :هذا صحيح ،إلا أنه – مع صحته – قد أدى إلى اختلافهم فى المسألة الواحدة ،ورد بعضهم بعضا بشئ من تعصب کل لمدرسته – بصرية کانت أو کوفية – فتمسک کل منهم برواية ،وترک غيرها ،فنتج عن ذلک عدم حيادية  ،بل تقنين قام على منهج غير علمي ،وفي ثنايا الکتب النحوية ما يوضح ذلک ويبرهن عليه([14]) .
الدراسات السابقة :-
مما منّ الله به علي أنه بعد أن انتهيت من کتابة هذا البحث ، وقع تحت يدي عملان ،فأردت بيان مااحتويا عليه- إجمالا- إتماما للفائدة ،وهذان العملان :-
أحدهما : لأستاذ ، له قدر ،ومکانة في ميدان البحث ، قرأت له شرحا على مقرب ابن عصفور، إضافة إلى مؤلفات أخر أظهرت دقته في اختيار ما يکتب.
وثانيهما لباحث مجتهد ، أدى لاجتهاده مشرف واع ، قد تتلمذت له ، وأفدت منه کثيرا. لاأنکر ذلک أبدا .
أما العمل الأول ،فهوکتاب بعنوان ( تغيير النحويين للشواهد ) للأستاذ الکتور/ علي محمد فاخر
وهذا الکتاب مطبوع ،نشرته دار الطباعة المحمدية ،عام ستة وتسعين وتسعمائة والف من الميلاد .
قدم فيه صاحبه – مشکورا – ما حواه عنوانه من مضمون التغيير، ذاکرا أسباب ذلک ، جامعا ما جمعه من أبيات حوتها أبواب النحو والتصريف .
وعنوان الکتاب - في نظري - مقيد بقيد التغيير للشواهد الشعرية .الأمر الذي جعل صاحبه لايخرج عن قيده فيه ، مفصلا قوله فيما نص عليه ، ذاکرا ما أوردته کتب اللغة وتاريخ النحو والنحاة .
وأما العمل الثاني ، فهو رسالة جامعية غير منشورة جاءت بعنوان :-    (الرواية الشعرية ، وأثرها في الخلاف النحوي ، والصرفي ) أعدها الباحث / السيد علي السيد غنيم – وأشرف عليها أستاذي الدکتور / جابر محمد محمود البراجة
تلک الرسالة حصل بها صاحبها على درجة العالمية ( الدکتوراة ) سنة خمس بعد الألفين من الميلاد .
وجاءت الرسالة خاصة بالرواية الشعرية ، وما نتج عنها من خلاف .
إلا أنه مما يلفت النظر أن الباحث نص في مقدمة رسالته صـ6على أن زعم نسبة التغيير للنحويين هم منه براء إلى آخر ما ذکره في نصه ن ثم کرر ذلک في صـ120بل زاد عليه ، وأزاد ( وکأنه بهذا ينقد العمل الأول ، وقد اخذ منه ، ونقل عنه.
أضف إلى ذلک ما جاء في الرسالة من أبواب تخدم عنوانها
ولي في ضوء ماسبق سؤال :-هل کذب الرواة ،وأصحاب کتب تاريخ النحو واللغة فيما رووا، أوذکروا عن النحاة ،وما جاء في شواهدهم ؟
الإجابة عندي : لا ، لم يکذبوا .
ثم أقول له :- وما رأيک فيما جاء عند النحاة مخالفا ما عليه بيت الشاعر في ديوانه – إن ورد منسوبا عند النحاة – هل غيره صاحب الديوان ؟ أو ان النحاة هم من قاموا بتغييره ؟
الأمر الذي يجعلني اقول بأن ماکتبه الباحث منه يحتاج إلى إلى معاودة نظر ، ومراجعة رأي .
 هذا ما جاء عليه العملان ، وإن کنت أتفق مع صاحبيهما – ولهما الشکر على ما قدما من فکر ، ورؤى-  في فکرة التغيير – کوجه من وجوه تعدد الرواية- وإن کنت أختلف عنهما في مضمون ما کتبت .
فما کتبته يتعلق بالشاهد المسموع في عمومه – قرآنا أوحديثا أوشعرا- ذاکرا أن بعض اللغويين والنحويين قد انصرفوا عن الاستشهاد بالقرآن وقراءاته تحرزا، مع أن أکثر النحويين على علم بالقراءات وأداء القرآن ، فهذا مما يلفت النظر ، کما لفته عند اختلافهم في الاستشهاد بالحديث مما أثار أسئلة ذکرتها في مکانها.
وما کتبته عن الشاهد الشعري فقد قدمته دليلا على أن نظرة النحويين فيه جاءت مختلفة ، مما اضطرهم إلى إيجاد أسباب تؤيد ما ذهبوا إليه- قد يکون منها التغيير- مبينا عدم إيضاح الفرق عندهم بين المستوى اللغوي ، والمستوى النحوي ، کما أنهم لم يلتفتوا إلى الفرق بين النظم والنثر فراحوا إلى التأويل ، وخلق المسوغات ، متناسين طبيعة الشاعر ، وماعليها يجيئ شعره.
هذا ؛ وليس بحثي حصرا للشاهد ، إنما هو نظرة لما جاء عليه من حيث الرواية ، والتوجيه ، وإلى أي مدى کان الهدف من إيرادالشاهد على صورته ، وکيفية توجيهه في کتبهم ن واضعا تلک النظرة بين الدلالة ،والنقد ، معطيا کل ذي حق حقه - دون ميل أو هوى، فکل يؤخذ منه ويرد- مطمئنا إلى ما نقله الأساتيذ الأوائل ، ظانا بهم صدق الرواية ، والنقل – وإن اختلفوا.


الكلمات الرئيسية