بلاغة التوجيه النبوي إلى محبة الله ورسوله

نوع المستند : المقالة الأصلية

المؤلف

الأستاذ المساعد في قسم البلاغة والنقد بکلية اللغة العربية بجرجا

المستخلص

فإن المحبة شعور فطري خلقه الله عز وجل في الإنسان لتعمر به الحياة ، فالحب هو سر الوجود بل هو روح الوجود ، لا قيمة للإنسان بدونه ، دون هذه العاطفة يعيش الإنسان حياة الأنعام بل الأنعام أحسن حالاً منه بالحب يرقى الإنسان إلى أعلى المنازل ، ويسمو بالروح إلى أرقى الدرجات ، " فالمحبة هي التي تحرک المحب في طلب محبوبه الذي يکمل بحصوله له ، فتحرک محب الرحمن ومحب القرآن ، ومحب العلم والإيمان ، ومحب المتاع والأثمان، ومحب الأوثان والصلبان ، فتثير من کل قلب حرکة إلى محبوبه من هذه الأشياء ، فيتحرک عند ذکر محبوبه منها دون غيره (1) .
 
ولما کانت المحبة بهذه المنزلة جاء الإسلام ليهذبها ويجعل رباط المسلم فيها مرتبطاً بالله عز وجل ، فإن أحب أحبَّ لله ، وإن أبغضَ أبغض لله ، وإن أعطى أعطى لله ، وإن منعَ منع لله ، شعاره فيها " {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُکِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (162) سورة الأنعام " فمدار حياة المسلم کلها حول قطب المحبة ، محبته لله هي التي تدفعه إلى طاعته ، ومحبته لرسوله هي التي تسوقه إلى اتباع سنته ، ومحبته للصالحين من عباد الله هي التي تقوده إلى بذل روح الود لهم وخفض جناح الذل عندهم حسبة لله وامتثالاً لأمر نبيه.
لقد ارتبطت علاقة المحبة بالإيمان ارتباطاً وثيقاً حتى صارت شرطاً من شروط الإيمان ، ورکناً من أرکانه لا يُستکمل الإيمان إلا بها ، وأعلى درجات هذه المحبة محبة الله ورسوله ، ولذا يقول صلى الله عليه وسلم : لا يؤمن أحدکم حتى أکون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين ". (1)
بل المحبة هي أوثق عرى الإيمان ، يدل على ذلک الحديث الذي رواه البيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر يا أبا ذر أي عرى الإيمان أوثق ؟ قال الله ورسوله أعلم  قال : المولاة في الله والحب في الله والبغض في الله "(2).
بل هي منزلة من منازل السائرين إلى الله عز وجل والسالکين طريق الآخرة تحدث عنها ابن القيم ومن قبله الإمام الهروي ضمن منازل السالکين .
يقول ابن القيم : " ومن منازل : إياک نعبد وإياک نستعين " منزلة المحبة ، وهي المنزلة التي تنافس فيها المتنافسون ، وإليها شخص العاملون ، وإلى علمها شَمَّر المتسابقون ، وعليها تفانى المحبون وبروح نسيمها تروّح العابدون ، فهي قوت القلوب وغذاء الأرواح وقرة العيون ، وهي الحياة التي من حرمها فهو من جملة الأموات ... وهي روح الإيمان والأعمال والمقامات والأحوال التي متى خلت منها فهي کالجسد الذي لا روح له " (1)  
ولما کانت المحبة من أرقى المنازل کانت عرضة لادعاء المدعين ، فما أکثر المدعين لمحبة الله ومحبة رسوله ، لکن عند التحقيق يتراجع عنها المفلسون ولا يثبت فيها إلا الواصلون .
يقول ابن القيم : " لما کثر المدعون للمحبة طولبوا بإقامة البينة على صحة الدعوى فلو يعطى الناس بدعواهم لادعى الخلي حرقة الشجي فتنوع المدعون في الشهود فقيل لا تقبل هذه الدعوى إلا ببينة قوله : {قُلْ إِن کُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْکُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَکُمْ ذُنُوبَکُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
آل عمران :31 . فتأخر الخلق کلهم وثبت أتباع الحبيب في أفعاله وأقواله وأخلاقه " (1)(2)

لقد عُني القرآن الکريم بالحديث عن هذه المنزلة ، وعنيت السنة النبوية کذلک بها أيما عناية فکثر حديثه صلى الله عليه وسلم عنها مبيناً فضل هذه المنزلة ومدى ارتباطها بالإيمان ، وکيفية تحقيق هذه المنزلة وکيف تکون حدودها وضوابطها . 
      وکلامه صلى الله عليه وسلم - على العموم - کلام حُفَّ بالعصمة وشُدُّ بالتأييد ، وألقى الله عليه المحبة وغشاه بالقبول ، فهو کلام يغوص في أعماق النفس البشرية ويؤثر فيها تأثيراً کبيراً .
وکلامه صلى الله عليه وسلم - على الخصوص - في هذه المنزلة
" منزلة المحبة " کلام يأخذ بالألباب، ويسحر النفوس ؛ لأنه کلام عن عاطفة يشترک فيها جميع البشر، والکلام فيها - وخاصة عند المحبين - يصادف هوى في النفس، ويشفي غليلاً في الفؤاد ؛ لأنه حديث النفس إلى النفس ، وهُتاف الروح إلى الروح .

لذا وجدت نفسي مشدوداً إلى کلامه صلى الله عليه وسلم عن هذه المنزلة، واشتاقت نفسي للکتابة حول هذا الموضوع - رجاء أن أکون من أهل هذه المنزلة فأحشر في زمرة المحبين لله ورسوله - فاستخرت الله سبحانه وتعالى ودعوته أن يوفقني في هذا الأمر، وأن يجعله خالصاً لوجهه .
ولما کان التخصص يحتم على الکاتب أن ينظر إلى الموضوع من زاوية تخصصه اتخذت الدراسة في هذا الکتاب طريقها من الوجهة البلاغية ، فسلطت الضوء على مادة البحث - وهي حديثه صلى الله عليه وسلم عن محبة الله ورسوله - لتميط اللثام عن بعض جوانب بلاغته صلى الله عليه وسلم وروعة بيانه خلال حديثه عن هذه المنزلة ، وتکشف النقاب عن کيفية توظيفه صلى الله عليه وسلم لأساليب البيان في بيان حدود وضوابط هذه العاطفة ، وکيفية توجيهه صلى الله عليه وسلم لهذه العاطفة وجعلها المحرک القوي الذي يدفع بالمؤمن في طريقه إلى ربه، فتجعل محور حياته کلها محبة الله ورسوله ،ثم بلاغته في التوجيه إلي أسباب تحصيل محبة الله لنا.
وقد سارت الدراسة حول هذا الموضوع في تمهيد وفصلين :
          کان الحديث في التمهيدعن ماهية المحبة وأنواعها ومراتبها وعلاماتها وشواهدها ومدى ارتباطها بالعبودية . وتحدثت فيه عن ماهية المحبة وأنواعها واستحقاق الله  لها وارتباطها بالعبودية ، ومدى ارتباط المحبة بالعبودية وعلاماتها وأسباب تحصيلها.                  
  وذلک ليکون هذا التمهيد بمثابة مدخل إلى الدراسة البلاغية .
 الفصل الأول : عن بلاغته صلى الله عليه وسلم في بيان فضل محبة الله ومحبة رسوله ومحبة آل بيته ،وفيه مبحثان :
المبحثالأول: ورکزت الدراسة في هذا الفصل على توظيفه صلى الله عليه وسلم لکل ما أوتيه من فصاحة وبلاغة في بيان ارتباط محبة الله ورسوله ومحبة آل بيته بالعقيدة ، وتبوئها من الإيمان مکاناً عالياً .
المبحث الثاني : بلاغته r في بيان  فضل محبة آل بيته .
 الفصل الثانى : بلاغته صلى الله عليه وسلم في بيان محبة الله لعباده وأسبابتحصيلها وفيه مبحثان :
 الأول: الطاعة سبيل إلي نيل محبة الله
 الثاني: علامة محبة الله تعالى للعبد
ثم الخاتمة وذکرت فيها أهم الوسائل التي استخدمها صلى الله عليه وسلم في بيان هذه المنزلة.
ولقد بذلت في هذا البحث جهدي وطاقتي محاولاً استجلاء جانب - ولو بسيط من جوانب بلاغته صلى الله عليه وسلم حول هذه القضية المهمة، فإن کنت قد وفقت فلله الحمد والمنة ، وإن کانت الأخرى فأسأل الله المغفرة ، وحسبي فيه صدق النية وصلاح القصد.
وأنت أيها القارئ لک من هذا الکتاب غُنمه وعلىَّ غرمه، فإن صادف منک قبولاً فإمساک بمعروف وإلا فتسريح بإحسان.
والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبي
                                          المؤلف
                                        د / أحمد حسن على محمد
                                       الأستاذ المساعد في قسم البلاغة
                                      بکلية اللغة العربية بجرجا
 

الكلمات الرئيسية