مخالفة المفردة القرآنية لنمط سوابقها في النظم دراسة بلاغية

نوع المستند : المقالة الأصلية

المؤلف

مدرس البلاغة والنقد بکلية اللغة العربية بجرجا

المستخلص

فإنه من الجرم في حق الأمة العربية وتراثها أن يعتقد الدارس للعربية أن البحث البلاغي الذي يستمد مادته من التراث البلاغي القديم بحث عقيم ، وأکثر منه جرمًا من يسير بغير وعي وراء هذه الدعوات التي تنادي بالتجديد متأثرًا بالفکر الغربي الذي يهدف إلى قطع الصلة بين الأمة الإسلامية وتراثها ؛ لأنه يعلم يقينـًا أن الخير کله في التمسک بهذا التراث .
 إن مثل هذه الدعوات تحاول أن تلبس البلاغة العربية أثوابًا مزيفة تفقدها الذوق ، وتبعدها عن الجمال ، وتحيلها إلى فلسفة هدفها قتل الذوق العربي .
فکثير من هذه الدعوات إلى التجديد تحاول تزييف الحقائق ، وذلک بتغيير مصطلحات التراث البلاغي إلى مصطلحات يرونها حديثة ، يبدلون فيها ويحورون ثم يدعون أن ذلک تجديد وإضافة ، وأن ذلک الصنع من بنات أفکارهم ، وأن هو المنهج الذي يجب الأخذ به ، وترک ما عداه .
وليس معنى هذا أنني ضد مسألة التجديد البلاغي ، ولکنني ضد التجديد الذي يريد أن يهدم التراث ، ومع التجديد الذي يستمد أصوله من هذا التراث العربي ، والذي يتکئ على إشارات العلماء المبثوثة في کتبهم ، ثم يستثمر هذه الإشارات ؛ ليخرج منها بحثـًا علميًا يوضح من خلاله أن التراث البلاغي ما زالت کنوزه مخبوءة في ثنايا کلام العلماء تحتاج إلى من يکشف عنها ، ويبرز مکنونها، وما زالت هناک إشارات في کتب التراث البلاغى تحتاج إلى من يجمع شتاتها ، ويخرج منها بموضوع مستقل.
ومن ضمن هذه الإشارات العلمية في کتب التراث البلاغي الإشارة إلى أسلوب المخالفة ، والانتقال من صيغة إلى صيغة أخرى في سياق نظم الکلام الواحد ، وهو أسلوب جعله بن الأثير من شجاعة العربية ، وذلک لأن صاحب هذا الأسلوب کالرجل الشجاع الذي يرکب ما لا
يستطيعه غيره ، ويتورد ما لا يتورده سواه ([1]) ، وهو کما يقول السکاکي " طريق للبلغاء لا يعدلون عنه إذا اقتضى المقام سلوکه "([2]) ، وبعد أن يعرض السکاکي لشواهد هذا الأسلوب يقول : " وأمثال هذه اللطائف لا تتغلغل فيها إلا أذهان الراضة من علماء المعاني "([3])والعرب کما يقول العلوي: " يرون الانتقال من أسلوب إلى أسلوب أدخل في القبول عند السامع ، وأکثر لنشاطه ، وأعظم في إصغائه ، وإذا کانوا يحسنون قرى الأضياف وهو دأبهم ، وعليه هجيرهم وعادتهم ، فيخالفون فيه بين لون ولون ، وطعم وطعم ، أفلا يستحسنون نشاط الأفئدة ، وملاءمة القلوب بالمخالفة بين أسلوب وأسلوب ؟ بل يکون هذا أجدر ، فإن اقتدارهم على مخالفة أساليب الکلام أکثر من اقتدارهم على مخالفة الأطعمة ؛ لأن البلاغة في الکلام عليهم أيسر ، وهم عليها أمکن وأقدر " ([4])ومع هذه الأهمية لأسلوب المخالفة بين الصيغ داخل النظم ، ومع هذا الإدراک من علماء التراث البلاغي لأهمية هذا الأسلوب إلا أنه لم يأخذ حقه من الدراسة في کتب التراث البلاغي ، فباستثناء إشارات ابن الأثير، والسکاکي، والعلوي لم أجد فيما اطلعت عليه من کتب التراث البلاغي حديثـًا مستقلا ً يعنى بدراسة هذا الأسلوب ، ويرصد أنواعه ، ويکشف عن أسراره ودقائقه ، فقد وجه البلاغيون اهتمامهم بنوع واحد من هذه المخالفات على تنوعها ، وهي المخالفة بين الضمائر ، والتي درسوها تحت مصطلح الالتفات ، أما باقي المخالفات فإن وجد لها شيء في کتب التراث فهي إشارات عابرة لا تفي بالغرض ، حتى هؤلاء الثلاثة سالفي الذکر الذين أدرکوا قيمة هذا الأسلوب ، وبينوا أهميته لم يعطوا هذا الأسلوب في دراسته الأهمية التي وصفوه بها ، ولم يکشفوا عن کل جوانبه وأبعاده ، ولم يدرسوه تحت باب مستقل . فابن الأثير والعلوي خلطا الأمر ، وبدلا ً من أن يدرسا الالتفات على أنه نوع من أنواع المخالفات المتعددة في صيغ الألفاظ جعلا کل انتقال من صيغة إلى صيغة أخرى نوعًا من الالتفات ، وهذا مخالف لما عليه جمهور البلاغيين .
أما السکاکي فإن إشارته لهذا الموضوع جاءت عابرة ، وغير مقصودة لذاتها ، فقد جاءت في ثنايا حديثه عن التقييد بأدوات الشرط  .
ولأهمية هذا الأسلوب التي أشار إليها العلماء ،وعدم استقلاله بدراسة مستقلة في کتب التراث البلاغي تکشف عن أنواعه وأسراره،ودقائقه ولطائفه کان لا بد من البحث عن دراسة تطبيقية ترصد أنواعه، وتکشف عن مراميه ومقاصده ، وتزيل الستر عن نکاته ولطائفه ، فوجدته في القرآن ظاهرة أسلوبية تلفت الانتباه ، وتستوجب النظر ، فکان هذا الموضوع ( مخالفة المفردة القرآنية لنمط سوابقها في النظم دراسة بلاغية) ، وقد استخدم علماء البلاغة في إشاراتهم لهذا الأسلوب أکثر من مصطلح ، فتارة يطلقون عليه مخالفة ، وتارة انتقالا ً ، وتارة رجوعًا ، إلا أن لفظ المخالفة کان هو الأکثر دورانـًا على ألسنة البلاغيين والمفسرين ، ولذا آثرت هذا اللفظ على غيره في العنوان .
ومنهج البحث يقوم على استقصاء أنواع المخالفة بين صيغ الألفاظ في القرآن الکريم وذلک بوضع عنوان مستقل لکل نوع من المخالفة ، ثم الاستشهاد ببعض الشواهد التي تبرز هذا النوع وتوضحه ، وتکشف عن لطائفه ودقائقه ومقاصده ، وأسباب إيثار المخالفة على سير الکلام على نمط واحد کل ذلک للوصول إلى الهدف المنشود من کل دراسة بلاغية ، وهي إثبات إعجاز النظم القرآني ، وتفرده عن غيره من الأساليب ، وکان ترکيزي في  التحليل على أسلوب المخالفة دون غيره من الأساليب إلا ما دعت إليه حاجة البحث ، أو کان مرتبطا بأسلوب المخالفة ، وذلک إيمانـًا مني بأن البحث البلاغي يجب أن يکون منصبًا على النکتة الأساسية المقصودة دون إرهاق البحث بتحليل الأساليب التي لا تمت إلى الموضوع بصلة ؛ لأن تحليل هذه الأساليب الخارجة عن موضوع البحث لا يميز الموضوعات بعضها عن بعض ، ويخرج البحث عن مضمونه وهدفه وقصده .


 

الكلمات الرئيسية