نقد ابن سنان الخفاجي لامرئ القيس في ضوء أسرار الفصاحة

نوع المستند : المقالة الأصلية

المؤلف

مدرس البلاغة والنقد في کلية اللغة العربية بأسيوطأحمدأحمد

المستخلص

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين ، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، وبعد ،،،
فمنذ أن عرف العربي الأدب ـ والشعر في مقدمة فنونه ـ عرف النقد([1])، ومنذ أن عرف النقد عرفت البلاغة ، ولا أدل على ذلک من نقد طرفة للمتلمس أو المسيب بن علس ، والنابغة لحسان ، وأم جندب لامرئ القيس إن صحت الرواية.([2])
نشأ معاً ، و" نبعا من أصل واحد ، وسارا معاً شوطاً بعيداً في المراحل الأولى من تاريخهما ، ثم أخذ کل منهما بحکم وظيفته يشق لنفسه طريقاً خاصاً، ويکتسب سمات وصفات معينة انتهت بهما إلى الانفصال کعلمين مستقلين .
ولکن هذا الانفصال لا يعني الانقطاع التام بينهما ؛ لأن النقد کان ولا يزال يقوم في بنائه على أسس بلاغية([3]) ، والدليل على ذلک أن هناک کثيراً من الدراسات النقدية تقوم في جوهرها على أسس بلاغية مثل عيار الشعر لابن طباطبا ، والموازنة للآمدي ، والوساطة للجرجاني . ([4])
ولئن تحول النقد إلى بلاغة على يد أبى هلال([5]) ، ومهد لذلک التحول القاضي الجرجاني ([6]) فقد بلغ ذروته على يد الإمام عبد القاهر ومعاصره ابن سنان الخفاجي .
ولکن لم اختار البحث ابن سنان ناقداً وامرأ القيس شاعراً ؟ ولم اختار نقد ابن سنان لامرئ القيس خاصة ؟ ولم کان في ضوء أسرار الفصاحة ولم يکن في سرها ؟
ويجاب عن ذلک بما يلي :
أما اختيار ابن سنان ناقدًا فذلک لما يلي :ـ
أولاً : أنه بنى نقده على أسس واضحة من النظم ، فجعل معرفة حقيقة الفصاحة والعلم بسرها وسيلة لمعرفة نظم الکلام على اختلاف تأليفه ونقده  ، ومعرفة ما يختار منه مما يکره . ([7])
ثانياً : أن ابن سنان لم يسلک المسلک الأدبي في تقرير قاعدته کما هو الحال عند الإمام عبد القاهر ، ولا المسلک العلمي کما هو الشأن عند السکاکي بل عرض أفکاره في أسلوب أدبي علمي رائع . ([8])
وهذا وإن سبقه إليه أبو هلال العسکري ، ومن قبل عبد الله بن المعتز إلا أنه لم يوجز إيجاز أبى هلال ، ولم يسرد النماذج سرداً دون تحليل أو تعليق کما هو الحال عند صاحب البديع ، بل حلل وعلل وفصل دون إخلال أو إملال .
وأما اخيتار إمرئ القيس فذلک لسببين :
الأول : أنه شاعر جاهلي ، وهو ممن يحتج بقوله ويستشهد به ، وهذه وإن کانت سمة قد شارکه فيها غيره من شعراء عصره وبني طبقته إلا أن لکلٍ منهم سمتاً يميزه عن غيره ... والدليل على ذلک أنک تجد المعنى الواحد يتکرر في شعر الشاعر أو في شعر غيره ومع ذلک تجد القصيدة التي هي بوتقة لذلک المعنى کأنها هي وحدها التي قيلت في ذلک الموضع ، وذلک ([9]) " لأن فيها من الاختلاف في الأبنية والصور والأحوال والتراکيب والأحداث والمعاني ما يجعلها شيئاً مختلفاً تماماً " ([10]) ومرجع هذا کما يقول أستاذنا الدکتور أبو موسى ـ أثابه الله ـ : " إلى قوة الطبع وقوة الإحساس والهيمنة التامة على اللغة " . ([11])
الثاني : أن امرأ القيس ـ کما يقول ابن قتيبة : " قد سبق إلى أشياء ابتدعها واستحسنها العرب واتبعته عليها الشعراء "([12]) ، ومن يطالع الشعر والشعراء([13]) ، والعمده لابن رشيق([14]) ، بل وسر الفصاحة نفسه في التشبيه المختار والإيجاز المحمود([15]) يجد دليلاً على صدق ما أقول .
أما نقد ابن سنان لامرئ القيس فذلک لأنک تارة تجده ـ أي امرأ القيس ـ قد حاز عنده قصب السبق فيجعل لقوله الصدارة فيما يستشهد به لحسن ما سبق إليه من جانب ولما يترتب عليه من تقرير قاعدته من جانب آخر .
يلحظ هذا في باب الکناية عما يجب أن يکنى عنه في الموضع الذي لا يحسن فيه التصريح . ([16])
وحينا آخر يورد قوله ضمن ما يستشهد ويقدم عليه ما هو لاحق به ومتأخر عنه .
يبدو هذا في عموم حکمه بالقبح على الغريب الوحشي والحُسن على القليل([17]) من الترصيع ، وکأنه يريد أن يقول لنا : إن امرأ القيس رغم تقدمه هو  وغيره سواء في الحکم له أو عليه .
وضرب آخر يسلک فيه مسلک الموازنة ليتسنى له الحکم باستحسان قول امرئ القيس على قول الأعشى في الحشو المختار ، والأفضلية على قول الوليد ابن يزيد في الإيجاز المحمود . ([18])
وتارة يسلک مسلک الموازنة لا ليميز بين جودة قوله أو رداءة قول غيره أو العکس ، بل ليکشف لنا عما انفرد به کل منهما من الوفاء بدلالة الغرض وإيضاح المقصود .
يبدو هذا فيما تنبه له وانفرد به فيما هو مشهور من تشبيه شيئين بشيئين في بيت . ([19])
وتارة يسلک مسلک الموازنة لا ليکشف لنا عما أحسن فيه هو وما أساء فيه غيره ، ولا عما أبان فيه من دلالة کل منهما على الغرض ، بل قارن يبين قولين له في مقام واحد وکأنه يريد أن يقول لنا إن امرأ القيس وإن اشتهر بوصف الخيل إلا أنه لم يکن مصيباً في کل موطن فکان کلامه غير مطابق لمقتضى حاله .
هذا ولم يکن ابن سنان الخفاجي هو أول من سبق إلى نقد امرئ القيس، بل سبقه إليه الأمدي والجرجاني وقدامه وأبو هلال وغيرهم ، وهو في هذا :
ـ إما أن يوافقهم على نقدهم ويضيف إليه .
وذلک على نحو موافقته لهم فيما ذکروا من الغريب الوحشي أو التکرير القبيح .
ـ وإما أن يخالفهم فيه :
وذلک على نحو مخالفته لأبى هاشم ـ عبد السلام بن محمد ـ ([20]) من أن الحشو في قوله " ورضت فذلت صعبة أي إذلال " إنما هو لإرادة الوزن لا غير.
ـ وإما أن يقف موقفاً وسطاً :
وذلک على نحو موقفه فيما خولف فيه العرف العربي الفصيح وما استحسنوه من استعارة أجزاء الحيوان لأوصاف الليل الطويل .
وهناک ضرب آخر لا يقف عند هذا الحد ، بل إنه ليتجاوز هذا إلى الکشف عما قصر فيه سابقوه من إبراز العلة وإظهار السبب .
أما کونه في ضوء أسرار الفصاحة فلأن الفصاحة عنده ليست سرًا واحدًا بل هي سر قد اشتمل على عدة أسرار ([21]) ، والدليل على ذلک أنک تجد من تلک الأسرار ما يختص بفصاحة اللفظة المفردة ، وقد جاء نقد ابن سنان الخفاجي لامرئ القيس في ضوء شرطين من شروطها :ـ
الأول : أن تکون غير متوعرة وحشية .
الثاني : أن تکون جارية على العرف العربي الصحيح .
ومنها ما يختص بفصاحة الألفلظ المؤلفة :ـ
وقد جاء نقد ابن سنان لامرئ القيس في ضوء الأسرار الآتية :
ـ التکرير      ـ الحشو المفيد   ـ الإيجاز المحمود . 
ـ حسن الاستعارة      ـ الکناية الحسنة والإرداف .
ـ التصريع      ـ الترصيع .
ومنها ما يختص بنقد ابن سنان لامرئ القيس في ضوء أسرار فصاحة المعاني المفردة ، والتي منها :ـ
ـ صحة التشبية .
ـ صحة الأوصاف .
ـ الاحتراس ([22]).
هذا وکما لم يکن ابن سنان هو أول من سبق إلى نقد امرئ القيس کذلک لم أکن أنا أول من سبق إلى هذه الدراسة ، بل سبقتني إليها دراسة مناظرة کـ"مناقدة ابن سنان للمتنبي " للدکتور / على عيسى ، ومناقدة ابن سنان لأبى تمام " للدکتور / محمد بنوت ، ولئن کان هناک من تشابه فذلک وفق منهج ابن سنان في عرض أفکاره ، وإذا کان هناک من اختلاف ـ وهو واقع لا محالة ـ فذلک وفق رؤية کل باحث تجاه نظر ابن سنان لکل شاعر على حدة .
هذا ولئن کان لابن سنان من جهد فذلک ما سبقت الإشارة إليه والنص عليه ، ولئن کان عليه من مأخذ فذلک ترکه ـ في جل ما استشهد به في صفحات کتابه ـ النقد الموضوعي  إلى النقد الموضعي  ، فضلاً عن عدم مراعاته حال الشاعر والکشف عن ملاءمة تلک الحال مع ما يريد توصيله للسامع والقارئ .
وهذا ما عرض له البحث في کل موطن وعمل على جلائه ووضوحه سواء في ذلک مواطن الاستحسان أو مواطن الاستقباح ، وسواء أکان في ذلک ـ أيضاً ـ موافقاً له أو مخالفاً إياه .
وبعد فهذا جهدي فإن أک قد وفقت فلله الحمد والمنة ، وإن کانت الأخرى فحسبي جزاء المجتهد والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل ..



([1]) تراثنا في لنقد الأدبي بين الأصالة والتأثر د / عبد الحميد هلال : ص 5 مطبعة الأمانة 1402هـ ـ 1982م .


([2]) ينظر تاريخ النقد الأدبي عند العرب د / عبد العزيز عتيق ص:21 وما بعدها . ن: دار النهضة العربية  .


([3]) السابق ص11 .


([4]) ينظر: البلاغة تطور وتاريخ د / شوقي ضيف ص : 120 ، 123 ، 128 ، 132 ، دار المعارف الطبعة التاسعة .


([5]) ينظر : النقد الهمجي عند العرب د / محمد مندور 321 ، 267 نهضة مصر للطبع والنشر.


([6]) انظر المرجع السابق .


([7]) ينظر سر الفصاحة لابن سنان الخفاجي ص : 12 ، دار الکتب العلمية بيروت ، الطبعة الأولى 1402هـ ـ 1982م .


([8]) ينظر : مقدمة الناشر ص : 8 .


([9])ينظر : الشعر الجاهلي دراسة في منازع الشعراء أ . د / أبو موسى ص20 الناشر مکتبة وهبه ، الطبعة الأولى 1429هـ / 2008  .


([10]) الشعر الجاهلي د / أبو موسى ص 20 ، 21.


([11]) المرجع السابق ص 20 ، 21.


([12]) الشعر والشعراء لابن قتيبة تح / أحمد شاکر 1 / 110 ط دار المعارف  .


([13]) السابق ص 110 وما بعدها .


([14]) العمدة لابن رشيق القيرواني ، تح / محي الدين عبد الحميد ، 1/290 ـ دار الجيل ـ ط رابعة 1972م .


([15]) ينظر : سر الفصاحة ص : 248 ، 217 .


([16]) السابق ص : 163 .


([17]) السابق ص : 70 ، 190 .


([18]) ينظر : سر الفصاحة ص : 148 ، 217 .


([19]) ينظر : البحث ص :  58 وما بعدها .


([20]) هو : أبو هاشم عدالسلام بن محمد الجبائي المعتزلي ، صاحب کتاب المسائل البغداديات في إعجاز القرآن ، وهو من الکتب المفقودة ، ذکر ذلک د/ حکمت بن بشير بن ياسين في کتابه کتب التراث بين الجودة والانبعاث ص 273 ، الطبعة الأولى 1422هـ دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع  .


([21]) ومما يؤيد هذا قوله في نهاية الحديث عن الألفاظ المؤلفة : " هذا منتهى ما نقوله في الألفاظ بانفرادها واشتراکها مع المعاني ، ومن وقف عليه عرف حقيقة الفصاحة ومائتها ، وعلم أسرارها وعللها . سر الفصاحة ص 243 .


([22]) هذا ولئن نهج البحث نهج ابن سنان في الترتيب إلا أنه لم يهمل ما هو مشهور عند البلاغيين المتأخرين من ضم النظير إلي النظير :ـ
ـ أما في فصاحة اللفظة المفردة فظاهر .
ـ وأما في فصاحة الألفاظ المؤلفة ، فقد ذکر الحشو إثر التکرير وهو من المتوسط بين الاستعارة والکناية وهما من أبواب علم البيان ، کما ثلث بذکر الإيجاز وهو من الأسرار الواقعة بعد أبواب من البيان والبديع ، وتلى هذا الحديث عن حسن الاستعارة والکناية وضم إليهما الإرداف وهو الواقع بعد أبواب من المعاني والبديع .
وههنا أمران ينبغي التنبيه عليهما :
الأول : لم يذکر الاحتراس إثر صور الإطناب ووضع في أسرار فصاحة المعاني المفردة لأنها ذکره إثر بيان کمال المعنى والمبالغة فيه ، وکأنه يريد أن يقول لنا لولا ذکر التحرز عما يوجب الطعن لظل المعنى ناقصا .
الثاني : لم يوضع التشبيه في صدر الحديث عن صور البيان لأنه بنى نقده له على صحة المعاني ، ومن يطالب أسس استحسانه له ـ فيما يشتمل عليه من الأرکان ـ يجد دليلاً على صدق ما أقول   .

الكلمات الرئيسية