تجليات ذاکرة المکان في السرد النوبي المعاصر (( قراءة في رواية: " الشمندورة لـ"محمد خليل قاسم نموذجاًً ))

نوع المستند : المقالة الأصلية

المؤلف

أستاذ الأدب والنقد المساعد جامعة الأزهر

المستخلص

فلقد شهدت علاقة الإنسان بالزمن توتراً  کبيراً منذ القدم، جعلت الإنسان في حالة  تهيب دائم منه، يحذره، فلا يعطيه الأمان، ولا يثق في معطياته الغيبية. فکثراً ما حمل الزمن للإنسان کوارث وتجليات تاريخية... ارتبطت في دلالتها الکبري بمعني الرحيل وانتهاء العمر. وهذا ماحدا بالإنسان أن يبحث عن ملاذ آمن، وبديل يثق فيه؛ فبدا له المکان المجال الأرحب الذي حمل همومه واستوعب نشاطه وطموحة، باعتباره عالم الحلم والوطن والوجود ومستقبل الذات، بعدما  کان يتألّم من کونه کائناً زمنياً.
فالمکان ـ وبدون شک ـ يجسد ـ ولا يزال ـ حضوراً قوياً وفاعلاً في النفس الإنسانية؛ إذ ارتبط بوعي الإنسان منذ نعومة أظفاره، حيث اختزن في ذاکرته العديد من جزئيات هذا المکان. . من العواطف والذکريات الإيجابية والسلبية، التي ظلت في ذاکرته ماثلة يستدعيها متي وجد لذلک سبيلاً، ولو بعد حين. فالمکان ليس مجرد مسحة، أو قطعة أرض أو حيزاً جغرافياً لايعني شيئاً للإنسان؛ بل هو جزء أساس لا يتجزأ من حياته، ومخزون دائم في ذاکرته لا يمکن محوه.
وماسبق يؤکد علاقة المکان بالإنسان، ويجعل منها علاقة جدلية مصيرية، فلا يمکن أن يتصور لحظة من لحظات الوجود الإنساني خارج سياق المکان، بقدر ماهي مرتبطة بإطاره المکاني. إنه جزء لا يتجزأ من کل الموجودات، وحاضر بکثافته في حرکتها وسکونها.
وإذا کانت علاقة المکان بالإنسان علي هذا القدر من الأهمية في الواقع الإنساني، فإنه لا يقل أهمية في النص الأدبي عامة والروائي منه خاصة؛ ليس بحکم کونه أحد عناصره الفنية الرئيسة التي تجري علي فضائه أحداثه وتتحرک خلاله شخصياته فحسب؛ بل لأنه يتحول في العمل الروائي المتميز إلى فضاء يحتوي کل عناصر ذلک العمل. . والعلاقات القائمة فيما بينها، فيمنحها المناخ الذي تنفعل فيه. . وتعبر عن وجهة نظرها.
لذلک، نجده يشکل حضوراً قويا عند الکثيرين من الروائيين، فنراهم کثيراً ما يتغنون  بأسماء الأماکن والبقاع والبلدان التي کانت لها وقعاً في ذواتهم.
وضمن هذا السياق اشتغل المکان فأدي دوراً فاعلاً في التخصيب الجمالي للنص الروائي؛ إذ إن الجمالية المکانية تنبثق عبر رحم اللغة، حيث تبرز تعامل المبدع مع عنصر الأمکنة وجوانب رؤيته لها، والأهداف المتوخاة منها. وإذا ما عدنا إلى المدونة الروائية العربية ـ الحديثة والمعاصرة ـ  لاحظنا بجلاء أن المبدع العربي بعامة والمصري منه بخاصة  قد ارتبط بالمکان الذي ولد فيه وعاش به، فاجتذبه إليه، وتغنى به في شعره ونثره، حتى وإن بعد عنه جغرافيا، إلا أنه قريب منه، ملتحم بذاکرته نفسياً وروحياً.
ولما کان للمکان ذلک الحضور الفاعل في الحياة الإنسانية، وفيما ينهض به من أدوار  جوهرية في بنية الرواية  لکونه عنصراً من عناصر ترکيبها، أصبح في حاجة ماسة إلى مزيد من الدراسة للکشف عن دلالاته بوصفه وسيلة تستنطق بها الذات المبدعة ذکرياتها، ومواقفها، ورؤاها تجاه واقعها الذي تعيش فيه. . مما يعتمل فيه من تناقضات وصراعات تزخر بها حرکة الحياة.
وهذا ما حفز الدراسة لأن تطرح رؤيتها في معالجة موضوعها تحت عنوان، (تجليات ذاکرة المکان في السرد النوبي المعاصر: قراءة فنية تحليلة في رواية الشمندورة لمحمد خليل قاسم نموذجاً). وما جاء ذلک إلا نتيجة قناعة من الباحث بما يؤدية المکان من أدوار فنية مهمة. . . قادرة على اختزان إيقاع الرواية واکتناه أبعادها.
کما أنه لم يکن اختيار رواية "الشمندورة" للروائي النوبي محمد خليل قاسم، نموذجاً تطبيقاً أمراً اعتباطياً، وإنما جاء عن قصد، وهو بسبب ما تضمنه هذ النص الروائي النوبي  ـ کجزء لا يتجزأ من الرواية العربية المصرية، وامتداد طبيعي من امتداداتها النوعية المتميزة ـ من حضور وهيمنة طاغية لعنصر المکان اصطبغت فيه بنيتها وشخوصها ولغتها وأحداثها. . بلون بشرة الوجوه الطبية لأهالي النوبة، فطغي علي سائر العناصر الأخري، وشکل قيمة مرکزية استبدت بکل أجزاء الرواية تقريباً.
وفي سبيل النهوض بهذه الرؤية ارتضت الدراسة لنفسها منهجاً إجرائياً، يحاول الاستفادة من مقولات بعض الرؤي النقدية الحديثة في دراستها للمکان؛ مما يتيح للدراسة مجالاً أرحب في الکشف عن الرؤية الفنية التي يتبعها النص الروائي المدروس في نظرته للمکان، وفي الواقع الذي يمثله. فقد لجأت الدراسة فيما يخص تأثير التحولات الاجتماعية علي النص الروائي إلي الاستفادة من منهج التحليل الاجتماعي، کما لجأت المنهج  الوصفي التحليلي فيما يخص توضيح جماليات المکان، وأبعاده ودلالاته... باعتبارها مکوناً حقيقياً وفنياً في بناء الرواية. والاستفادة أيضاً بالمنهج التحليل النفسي فيما يتعلق بالکشف عن علاقة المکان في الأعمال الروائية بما يعتمل في لاشعور المبدع وهويته، وفي نفوس الشخصيات الروائية، وأخيراً الاستفادة بمقولات وتصورات المنهج الواقعي من حيث انعکاس الواقع الفعلي علي صورة المکان الروائي.
أما عن خطة الدراسة فقد اقتضت طبيعة الموضوع أن يأتي في مقدمة، وثلاثة مباحث رئيسة، وخاتمة، وثبت بالمصادر والمراجع جاءت علي النحو التالي:
الفصل الأول: (المکان: مهاد نظري)، وهو فصل تمهيدي فرضته طبيعة الظاهرة المکانية المدروسة، وفيه بحثت البعد المفاهيمي للمکان في استعمالاته المعرفية المتعددة: اللغوية والفلسفية والنقدية، ومحاولة فهم طبيعة حضوره فنياً في النص الأدبي بوجه عام  والروائي منه بوجه خاص، ومدي ما يتمتع به من تواجد وخصوصية في السرد النوبي المعاصر في ضوء المعطيات التاريخية والثقافية التي واکبها.
ومادامت الصلة متواجدة بين المکان والسرد الروائي النوبي، بل وعلي قدر کبير من التميز والخصوصية في مختلف المراحل. . فإنه کان من الضروري التعرف على البنية الدلالية لهوية هذا المکان في النص الروائي النوبي، ومن ثم فإن البحث في هذه البنية وهذه الهوية المکانية اتجه إلى دراسة طبيعة بنيته وعلاقاتها المکانية؛ لأن إبداع المکان في النص الروائي لا ينفصل عن علاقته بالذاکرة الجمعية والفردية؛ إذ يشکل بالدرجة الأولى علاقة تاريخية تقوم على استرجاع المکان؛ من هنا توزعت دلالات المکان على إنتاج مجموعة من الفضاءات التي  تمحورت حول الفضاء الفيزيائي والنفسي والاجتماعي والسياسي والثقافي وهو ما يوحي إلى اعتباره هوية فنية جمالية، بالإضافة إلى کونه انتماء. وهو ما نهض به الفصل الثاني من الدراسة والذي جاء بعنوان: (دلالات البعد المکاني في رواية الشمندورة).
أما الفصل الثالث والأخير: "جماليات التشکيل المکاني في رواية الشمندورة "  فهو فصل  يعتمد على تحليل التنويعات المکانية في امتداداتها الفنية والجمالية عن طريق تقاطعها مع بقية عناصر البناء الروائي: العنوان والشخصيات واللغة وحرکية الزمن... والتي تکتسب صورتها وتنوعها من مفاهيم المکان، أو ما يمکن ربطه بمفاهيم الاندماج والألفة والحميمية. ثم جاءت بعد ذلک الخاتمة لتربط فصول ومباحث الدراسة بعضها ببعض، ملخصة لها، وحاملة لأهم نتائجها ومعطياتها... التي توصلت إليها. وأخيراً ثبت بأهم مصادر البحث ومراجعه التي کانت خير معين في إنجاز مهمة الدراسة.
وفي النهاية، أرجو من الله تعالي أن أکون قد وفقت فيما أنا بصدده، وإخراج هذه الدراسة في حلة قشيبة لائقة بها. . إنه نعم المولي ونعم النصير.
***
د. لطفي فکري محمد الجودي
 

الكلمات الرئيسية