من بلاغة التفصيل بـ ( أما ) فى القرآن الکريم

نوع المستند : المقالة الأصلية

المؤلف

مدرس البلاغة والنقد بالکلية ـ جامعة الأزهر

المستخلص

فإن التفصيل آية من آيات بلاغة القرآن العالية ، وهدف من أهدافه السامية ، وطريقة من طرائق التعبير الرائعة ، ومسلک من مسالک توضيح المعانى وتقريرها والإبانة عنها والإفصاح عما فى مطاويها وفى هذا ما فيه من الإهتمام بإيصال المعانى ، وما تشتمل عليه من أحکام إلى کل من يخاطب بهذا المنهج السماوى الفريد ، وقد صرح القرآن الکريم فى کثير من آياته بأنها بيان وتبيين وأنها ]أُحْکِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَکِيمٍ خَبِيرٍ[([1])، وأن فى آياته ]تَفْصِيلاً لِّکُلِّ شَيْءٍ[([2]) ، وأن القرآن الکريم فى جملته ]کِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِياً[([3])، وما إلى ذلک مما يشير إلى اعتماد القرآن الکريم على منهج التفصيل کوسيلة لإيضاح المعنى وتوکيدها وتقريرها فى کثير من آياته وسوره .
وتتجلى بلاغة التفصيل ولاسيما إذا سبق بإجمال ، وکان هذا الإجمال مقصوداً لغرض الإيضاح والبيان ، فهو يبرز المعنى فى صورتين مختلفتين ، وصورة مجملة تستحث النفس المتلقية على متابعة البيان فى محاولة إلى الوصول إلى المعنى المراد ، وصورة مفصلة تقنع النفس المتلقية وتشبع نهمها من تقرير وإيضاح للمعنى الذى تلفع فى الصورة المجملة بما يشبه الغموض وإبراز المعنى فى صورتين يعمد إليه فى مقام يراد فيه إدراک الشئ على حقيقته والإحاطة بجوانبه بتکرار العلم به على منهاجين : الأول يحقق ضرباً من العلم بالحقيقة ، والآخر يحقق ضرباً من العلم بجوانبه وخصائصه ، وکل ذلک من خصائص التفصيل بعد الإجمال تمکين المعنى فى النفس فضل تمکن ، قال أهل العلم " إن المعنى إذا ألقى على سبيل الإجمال والإبهام تشوقت نفس السامع إلى معرفته على سبيل الإيضاح والتفصيل فتتوجه إلى ما يرد بعد ذلک ، فإذا ألقى کذلک تمکن فيها فضل تمکن ، وکان شعورها به أتم "([4]) .
کذلک من خصائص التفصيل : إکتمال لذة العلم بالمعنى ، وفى هذا يقول أهل العلم : " إن الشئ إذا حصل الشعور به من وجه دون وجه تشوقت النفس إلى العلم بالمجهول فيحصل لها بسبب المعلوم لذة ، وبسبب حرمانها عن الباقى ألم ، ثم إذا
حصل لها العلم به حصل لها لذة أخرى ، واللذة عقيب الألم أقوى من اللذة التى لم يتقدمها ألم "
([5]) .
وهناک خصائص لبلاغة التفصيل تتبدى - إن شاء الله تعالى - فى ثنايا التحليل لشواهد التفصيل ، وناهيک عن إيضاح المعنى وتقريره ، ولو لم يکن للتفصيل فائدة غير هذين لکفى ، وهذا هدف من أهداف البيان القرآنى يعمد إليه فى إيصال المعنى ، وهذا يعکس بالضرورة اهتمام القرآن بالمتلقين ؛ لأنه إذا تقرر اهتمامه بالمعنى ، فاهتمامه بالمتلقين من باب أولى . کيف والقرآن الکريم إنما نزل لهداية الخلق أجمعين ؟
هذا ..... والتفصيل فى القرآن الکريم يأتى على صور کثيرة ومتعددة منها التفصيل بـ (أمَّا) والتى اخترت أن يدور فى فلکها هذا البحث ، وجعلته بعنوان :
" من بلاغة التفصيل بـ ( أما ) فى القرآن الکريم "
وقد دفعنى هذا البحث إلى مطالعة کتب اللغويين والنحاة للوقوف على دلالاة " أمَّا " وما تفيده من التفصيل ، وقد جعلت التمهيد الآتى للحديث عن أقول العلماء فيها .
خطة البحث :
وقد أتى هذا البحث فى سبعة مباحث يسبقها مقدمة وتمهيد ويعقبها خاتمة وفهرس للمصادر والمراجع ، وقد جعلت کل مبحث من هذه المباحث لسياق من سياقات " أمَّا " التفصيلية التى وردت هى فيه وکان لورودها کبير الفائدة وعظيم الأثر فقد وافت على المعنى المراد لاقتضاء المقام لها ، وقد کان منهجى فى هذا البحث أن اذکر أولاً السياق القرآنى التى وردت فيه " أما " التفصيلية ، ثم أعرج على سبب النزول إن وجد حتى أربط بين الآيات والأحداث التى نزلت الآيات لأجلها ، وکيف کانت الايات معالجة صادقة للواقع ، وکيف صورته کأحسن ما يکون التصوير ، وکيف تحصل بها البيان والتفصيل ، ثم اقدن للآيات بشىء من الإيجاز حتى أکون والقارئ على بصيرة بمضمون السياق ، ثم آخذ بعد ذلک فى تحليل النص تحليلاً بلاغيًّا مبرزًا من خلاله بلاغة التعبير بأما وکيف ساعدت مفردات السياق على إبراز التفصيل وکيف کانت الحاجة على التفصيل ماسة ، وکيف وقغت أما موقعها اللائق من البلاغة وکيف أسهمت فى إبراز المعنى وإيضاحه ، کذلک لم أنس خلال التحليل البلاغى أن أقف على الدلالة المعجمية لمفردات السياق ، ومدى ملائمتها لجو السياق ، ثم الخاتمة ، وقد جعلتها تلخيصًا للبحث ، وذکرت فيها ما تراءى لى من توصيات ومقترحات وما توصلت إليه من قضايا لغوية وبلاغية ، ثم ختمت بفهرس للمصادر والمراجع .
هذا ... ولما کانتت " أمَّا " لا تفيد التفصيل فى کل أحوالها بل تفيده فى غالب أحوالها - کما تقرر - حرصت على استخلاص النماذج التى تبدى فيها التفصيل
 بـ " أمَّا " فى أبهى حلله ووافى على المعنى المراد ، وهذا جعلنى لا آخذ کل ما وقعت عليه عينى من الأمثلة والشواهد ، وأتعرض له بالتحليل ، إذ ربما کان فيها شواهد لم تتمحض للتفصيل ، أو أن دلالتها للتوکيد فقط ، أو له وللشرط معاً ، لاسيما وقد قرر النحاة أنها قد تأتى لغير تفصيل أصلاً .

وإذا کانت أبواب البلاغة القرآنية لا تفتح إلا لمن يقعقعون حلقها ممن " قد هدوا إليها ، ودلوا عليها ، وکشف لهم عنها ، ورفعت الحجب بينهم وبينها ، کما يقول الإمام عبد القاهر - رحمه الله - فلهذا آثرت أن يکون بحثى هذا فى جزئية خاصة من جزئيات البلاغة ألا وهى التفصيل وليس على إطلاقه وبکل أدواته بل التفصيل بأما لأنه مهما حاول باحث استقصاء المسائل البلاغية فلن يستطع ، ولکن ربما وفقت لشئ لم يتيسر لغيرى ، وربما تحصل غيرى على ما لم استطع الحصول عليه وقد يفوتنى وغيرى الکثير والکثير ، وهذا مما فهمته من کلام سهل بن عبد الله التسترى ، حيث قال : " لو أعطى العبد بکل حرف من القرآن ألف فهم لم يبلغ نهاية ما أودع الله فى آية من کتابه ؛ لأنه کلام الله وکلامه صفته ، وکما أنه ليس لله نهاية فکذلک لا نهاية لفهم کلامه ، وإنما يفهم کل بمقدار ما يفتح الله على قلبه ، وکلام الله غير مخلوق ولا يبلغ إلى نهاية فهمه فهوم محدثه مخلوقة " ([6]) . أ . هـ .
ولست أذهب مع الوهم فأدعى أن هذا البحث قد بلغ الکمال أو قاربه إن هو إلا محاولة اجتهدت أن تترسم خطى العلماء الأوائل ، وابتهلت إلى الله أن يهبها منه قبولاً وتوفيقاً ورشداً ، وأن يخلص بها القصد وأن ينفع بها من يشاء . إنه ولىّ ذلک والقادر عليه .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
الباحث
 
 

الكلمات الرئيسية