التوجيه البلاغى لمشکل البيان المحمدى الشريف

نوع المستند : المقالة الأصلية

المؤلف

الأستاذ المساعد فى قسم البلاغة والنقد فى کلية اللغة العربية فى الزقازيق

المستخلص

فمن المعلوم أن من أجل النعم الربانية على هذه الأمة أن خص لغتها لتکون لسان وحيه بلاغا عن الخالق لدستوره الدائم لعموم خلقه زمانا ومکانا، فصارت بهذا اللغة الشاعرة ـ دون ريب ـ مشرفة، وما من ريب کذلک أن من وراء هذا التشريف تکليفا فارضا على طلاب العلم
ـ وبخاصة المنتسبون منهم إلى ذلک العلم الشريف ـ واجبا يبقى على الزمان تجاه ذلک الکتاب، وکذا بيان رسوله ـ
r ـ فکلا البيانين مجال رحب وخصب للتدبر واستلهام الغايات والأسرار إلى جانب ما ينبغى من الصد والدفع لأمثال تلک الشبهات والمطاعن التى لا تزال تطل زمانا بعد زمان0
وقد يبدو توجه أکثر الجهود والدراسات والبحوث نحو القرآن العظيم، فتلک حقيقة يجسدها واقع، وذلک حقه  ـ لا ريب  ـ ما دام عطاؤه سخيا ودائما ومتجددا، وما دامت کذلک الرؤوس الواهمة، والقلوب المظلمة، والعقول التى لا تعقل تجد لها المجال رحبا لنشر المفاسد والمآرب، لکن الحقيقة  ـ أيضا ـ أن البيان المحمدى ينبغى أن يکون هو الآخر مجال عناية واهتمام، فتصرف إليه الجهود، وبخاصة نحو تلک المواقع التى يجد فيها المغيرون منطلقا لترويج أباطيلهم فى تلک السوق التى صارت بحکم أحوال طرأت رائجة لمثل أباطيلهم0
ولهذا فقد صرفت هذه الدراسة الهمة للتوجه إلى ثلاثة أودية مما يظنها الواهمون والمدعون والملبسون أو المرجفون والمنکرون أنها خصبة تهيئ لأمثالهم استنبات أفکارهم الخبيثة ، وأوهامهم الباطلة، وأکاذيبهم المفتراة يتعهدونها بالتلفيق والتلبيس على الناس، ليجنوا منها من بعد ثمرات مآربهم بما يبثونه من تخليط وتشکيک وادعاء، وهذه الثلاثة تتمثل فيما استشکل، وکذا ما أوهم ظاهره التعارض، وغريب البيان النبوى کذلک، ولکن لما کان کل من هذه المجالات من الرحابة خص کل بدراسة على حدة0
وکان البدء بعون الله وتوفيقه بمشکل البيان المحمدى؛ ذلک أن أهل العلم يقرون وقوع المشکل والمتشابه فى البيان النبوى مؤسسين ومنظرين على وقوعه فى القرآن الکريم، فکما کان فى القرآن الکريم المحکم، کان منه المتشابه بنص القرآن الکريم ، فکذلک البيان المحمدى جار هذا المجرى، فمنه البين المستقل فى بيانه بذاته، ومنه المفتقر فى بيانه إلى نظر وتدبر وتوجيه، والاحتکام فى ذلک إلى النظائر والأشباه، وکذا اختلاف الأحوال ، وتباين السياق والمساق، وتبصر القرائن المرشدة إلى نحو هذا من متطلبات دراسة هذه النماذج العالية، وذلک بمراعاة عادة العرب وعرف لسانها فى مخاطباتها، وطريقة أهل اللغة والعلم فى بيان الدلالات ومواضع الکلمات، وقد کان منهم من اشاروا إلى سمت الکلام وطرقه ووجوهه، ومعرفة أنماطه ومراتبه، إذ ليس شأن البيان النبوى شأن، غيره من کل بيان آخر، حتى يعقل على نحو ما يعقل غيره، وإنما هو نمط آخر من الکلام العالى، إذ هو لا يخرج عن إطار مراد الله، إذ هو بوحى مثلما کان القرآن الکريم وحيا، وعلينا أن نتنبه إلى هذا جيدا وألا نغفل هذه الحقيقة بحال ما دام الکلام موثقا من قبل الأثبات، مستوفيا لشروط التواتر سندا ومتنا 0
ومنبت الفکرة التى يقوم عليها موضوع الدراسة تعود إلى زمن بعيد، حيث کنت قد قرأت کما قرأ غيرى عبارة للسکاکى يعقب بها على باب التورية، حيث يذکر أن أکثر المتشابه محمول على هذا الباب، وما دمنا قد اتفقنا على وقوع المشکل والمتشابه فى الحديث الشريف، فالحکم على هذا ينصرف إليه کذلک، وحيث توفرت على مشکل القرآن الکريم ومتشابهه جهود عديدة ومتوالية من أهل العلم قديما وحديثا، فقد وجدت فى مشکل الحديث الشريف مطمحا لمعايشة نماذج منه ومدارسته على مقتضى ومنهاج الدرس البلاغى، مسترشدا بما سبق من کلام أهل العلم بغية الوصول إلى حقيقة الأمر فيما حکم به صاحب المفتاح أو ما هو قريب من الحقيقة؛ ليظل القصد أبدا خدمة البيان النبوى والتعرف على سمته وخصائص تراکيبه ودلالات ألفاظه ، وفاء لحق ومراعاة لمقتض من حيث کان بمراد المريد الأعلى مصدرا تاليا لکلام الله  ـ تعالى ـ فى التشريع بيانا وتفصيلا غير أنى أبادر فأعين ما تقصد إليه الدراسة هنا على جهة التحديد، والمتمثل فيما أشکل مما هو متعلق بصفات الذات أو صفات المعانى، أو ما يعود إلى أحواله  ـ تعالى ـ وشئونه، لا ما سوى ذلک مما تتسع له دائرة المشکل والمتشابه من نحو غريب اللفظ أو المعنى، مما هو مقصد دراسة يتجه العزم إلى إنجازها قريبا إن شاء الله0
ومما ينبغى أن يقال هنا کذلک : إن الذى اعتمدته الدراسة مجالا لأحاديثها ما استوفى شرط الضبط الحديثى دراية ورواية ،وأما ما کان على حال من الاعتلال بوجه ما من الوضع أو الضعف فقد طرح وأسقط من دائرة الاعتداد أصلا ، حتى وإن کان من المشهور والمذاع خلافا لما کان من حال أمثال ابن فورک ، فقد أمتد کلامه ليتناول مالا ينبغى الکلام فيه أصلا ، لخروجه عن نطاق ما يعتد بمثله مما صح عن النقلة من الثقات والأثبات0
وخطر هذا الذى حرصت على التنبيه عليه يعود إلى أمرين: ـ
الأول : إننا نتعامل مع النص النبوى من واقع ضوابط من مسلماتها ـ لاشک ـ الوثوق من يقينية النص إلى حدلا يتطرق إليه شىء مما يمکن أن يطعن به متنا أو سندا ،وبهذا يکتسب النص حقه وحظه المقسوم له مما هو فوق مجرد إلتماس وجه لصحته أو مسوغ لسلامته ، وإنما التطلع إلى ما ينبثق ويلوح ،وقد يظهر بإعمال عوامل ومقتضايات فقه أمثال هذه الأساليب العالية 0
والتنبيه على هذا ـ لاريب ـ مهم 0
الثانى : والمهم کذلک أمر آخر يرجع إلى خصوصية فى هذه الأحاديث مجال الدراسة ؛ لتعلقها بشئون الله  ـ تعالى ـ ذاتا ، أو صفات بما يرتب ويوجب بالغ الحذر ، فأمثال هذه الشئون لا تؤخذ إلا توقيفا عن الکتاب الکريم أو البيان النبوى ثابت الصحة ،و ـ حينئذ ـ يجرى التوجيه ويثمر على نحو ما ترجو هذه الدراسة وتطمح إليه 0
ثم إنه ينبغى القول کذلک إن هذا المجال فى البيان المحمدى مما يتسع فيه القول بأکثر من حمل وتوجيه حيث تحتيم المراد مع مثله خضوعا لمذهب ما أو صدورا عن فکر ما مسبق يؤدى حتما إلى نوع مجازفات وتطلب طرق غير مأمونة المسالک والغايات حين يفضى إذکاء روح التعصب أو التمذهب وتضييق آفاق التعبير الرحيب إلى توارى وجه الحق 0
لهذا فقد کان القصد ـ ما اقتضى الحال ـ إلى إبراز أکثر من وجه فى معرض التوجيه تبينا لمعطيات الترکيب وتبصرا بسخاء عطاءاته وإلتماسا لما عساه أن يکون الأقرب والأصوب والأنسب بأحوال النص وغاياته ومراميه 0
والله المستعان ومنه التوفيق

الكلمات الرئيسية